
رسائل الأجساد
بسم الله الرحمن الرحيم
كل من تخرج من مدرسة الحياة لا يفرح أبدا بحصوله على الشهادة منها، ويتمنى لو رجع أدراجه ودرس فيها من جديد، لكنها لا تقبل بهم مرة أخرى.
وهذا من العجب فهل رأيت تلميذا لا يبتهج أبدا بتخرجه من مدرسته!!
وحصوله على الشهادة منها .
نعم لا يفرح لأنه يعلم أن ذلك إشعار بقرب النهاية، ونهاية الرحلة ، ولكل سفر نهاية.
مدرستنا هذه خريجوها هم صفوة كل مجتمع، ومحط تقديره، وملح أفراه، لهم خصال متشابهة، وقناعات متفقة، كل ما تعلموه قد عاشوا تفاصيله لحظة بلحظة، ولا مسوه بكل مشاعرهم، لذلك تراهم لا يتزحزحون عما تكون لديهم من معلومات، وما انحفر في خواطرهم من تجارب.
وقد قدر لي أن أجلس بجوار أحد تلك الشخصيات المميزة، وكنت على حذرا ً من الوقوع في الزلل والخطأ، لأن هذا الصنف من الناس له بروتوكالاته الخاصة والتي قد تخفى على بعض شباب اليوم، بينما هي عندهم من الخطوط الحمراء !! وتجاوزها يعد هتكاً لستار كبرائهم، وحطاً من كرامتهم، فعليك أن تتقبل بصدر رحب بعض تلك الغارات التي قد تشن عليك من أحدهم في بعض المواقف، وأنت في غفلة عما صنعت! بل و لا تدري أي ذنب اقترفت....
المهم - بحمد الله- مرت تلك اللحظات على خير حال، فأنا في المكان الصحيح وفي الطريق السليم.
وبعد ذلك قررت البدء بفتح تلك الصفحات، وتلمس الحكم منها، واستخراج ما في هذه الصناديق من كنوز التجارب، وجواهر الدرر، فكم نحن بحاجة والله إلى أمثال هؤلاء ممن سبقونا في خوض دروب الحياة حتى لا تتكرر الاخطاء ونأخذ العبرة منهم.
فبادرت صاحبي بإلقاء السلام، ومددت يدي كي أصافحه، فوضعت كفي بكفه فكأنما أقبض على جلمود من الصخر، كادت يدي أن تحطم معه...
كف صلبة:
تقول لي: يا هذا الحياة تحتاج منك إلى صبر ومصابرة، وأن تكون صلباً في مواجهت عواصف الحياة التي لاتهدأ، وإلا انكسرت بك مركبك مع أول هبوب لها.
كف صلبة :
ذكرتني بأهمية الثبات على المباديء والأصول، وأنه لامساومة على الدين والعقيدة، وأن أصحاب القلوب الأسفنجية قد تشربوا وسخ الأفكار ونحاتة الأذهان، فهم ممن يبيعون الضمائر في بورصة الميكيافيلية.
كف صلبة:
نعت إلي تلك النفوس المرهفة، إذ همست في أذني أن من تدلل تعلل، وأن من يريد كسب الميدان فعلية أن يضمر جواده، فلا أضر و لا أرذل من إفساد الأنباء بمطلق الدلال، وحياة الترف الباذخ.
ثم إني دهشت بما علا تلك الكف من العروق الكثيرة المتشابكة المتداخلة...
فكأنها تشرح لي بأن دروب الحياة كثيرة ومختلطة، وتحذرني من الهيام فيها بغير هدف، وتنصحني بأن اسلك أقصر الطرق الموصولة إلى رضوان الله وجنته، فالذكي هو والله من وصل إلى الجنة وفاز برضوان الله،،،
فها هي عقول أصحاب الحضارة الزائفة قد وصلت بهم إلى عالم الذرة وسطح القمر، لكنها تجهل طريق الجنة، فتباً لتلك العقول التي وصف أصحابها بأنهم كالأنعام بل هم أضل..
ثم إني فتشت في أقرب طريق يوصل إلى الجنة فإذا الجواب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهله الله به طريقا إلى الجنة) فيا من تريد الجنان عليك بهذا الطريق واسلك دروبه تفز بإذن الله بمبتغاك.
فرد علي صاحبي السلام بكلمات تمتم بها، سمعت أولها واختلط علي آخرها.
فكان صوته رهيبا بعيدا كأنما ينادي من قعر بئر سحيق عميق...
فذكرني هذا الصوت بوحشة الروح عند فقد الأقران، ولوعة الحزن عند ذهاب الأتراب، وصدق من قال إن الرجل ليستوحش عندما يموت أقرانه.
وصدق التهامي بوصف الحياة بقوله:
طبعت على كدرٍ وأنت تريدُها ... صفواً من الأقذارِ والأكدارِ
وإذا رجوتَ المستحيلَ فإنَّها ... تبني الرَّجاءَ على شفيرٍ هارِ
العيشُ نومٌ والمنيَّةُ يقظةٌ ... والمرءُ بينهما خيالٌ سارِ
فاقضوا مآربكمْ عجالاً إنَّما ... أعماركمْ سفرٌ من الأسفارِ
وتراكضُوا خيلَ الشَّباب وبادروا ... أن تُستردَّ فإنَّهنَّ عوارِ
ليس الزَّمانُ وإن حرصتَ مسالماً ... خلقُ الزَّمانِ عداوة الأحرارِ
يا له من صوت وقعت حروفه على مسامعي كدوي الرعد، فرعب له فؤادي وارتعدت له فرائصي، وذلك من حقيقة تغافلت عنها وهي أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فرويدا رويدا في التكالب عليها ، والمخاصمة لأجلها فهي سراب بقيعة عما قليل سنبصر هوانه وحقارته.
وللحديث بقية مع رسائل هذا الجسد النصوح....
التعديل الأخير تم بواسطة العابري ; 18-07-2010 الساعة 04:19 AM