
كن هكذا ولا تندم
كن هكذا ولا تندم
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عندما تكون طيِّباً , حنوناً , سمحاً , متواضعاً ,
وعندما تتجاوز بعواطفك كل الحدود , فتحب
كل الناس , وتمدَّ يد العون لكل محتاج إليها
سواء طلب منك أو لم يطلب , وتعمل على
نصرة كل مظلوم حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار
بك , وتنسى واجبك نحو نفسك وأهلك وتتكلف
في سبيل الآخرين ما تطيق وما لا تطيق ,
وتتجاوز في ما تفعل مقولة المصطفى صلى
الله عليه وسلم إمعاناً في فعل الخير فتحب
للآخرين أكثر مما تحب لنفسك أحياناً فتبلغ
بذلك قمة ( الإيثـار ) ثم تجد نفسك من جراء
ذلك كله تقف في قفص الاتهام لأنك وعدت -
تطوعاً منك - في بذل قصارى جهدك لتحقيق
أمر ما , فلم تستطع فيتهمك صاحبه بأنك لا
تريد خدمته بدلاً من أن يشكرك على بذل الجهد
, وقد يستغل آخر مواهبك في الإخلاص وحبك
لفعل الخير فيوجهك - دون أن تدري - لتخدمه
فيما لا يستحق فينقم عليك آخرون , وقد
يعجب من تتطوع بخدمته وتحقق له ما يريد
فيسيء بك الظن ويعتقد أنك ترمي إلى هدف
أكبر من وراء ما قدمت له .
وعندما يكون أكبر عيوبك أن تحسن الظن بكل
الناس وتحسن الظن بنفسك فتعد بما
تستطيع , وبما لا تستطيع إيماناً منك بأن الله
سيوفقك في فعل الخير لمستحقه , واعتقاداً
منك بأن بذل الجهد في حد ذاته عمل عظيم ثم
تتلقى بعد ذلك أكوام اللوم , والعتاب والاتهامات
, وسوء الظن ممن خاب ظنهم فيك لعدم
قدرتك على بلوغ ما أرادوا منك .
وقد يأتيك صديق ناصح فيقول لك : إن هذه
طيبة مفرطة وأن الطيبة المفرطة في هذا
الزمن تعتبر ( غفلة ) ويعبرها البعض ( غباء )
وأن ( الخْبث ) و ( اللؤم ) و ( الأنانية ) هي
العملات الرائجة هذه الأيام في سوق التعامل
بين الناس , وقد يقول لك ناصح آخر بصدق :
إن طينتك الطيبة بحاجة إلى أن تعجن بأوقية
من ( الخبث ) لتستطيع التعامل مع العصر وإلا
فأنت ( مغفل ) لأنك تحسن الظن بداية
وتحسن النية في كل عمل , وتصدق كل ما
يقال وتتوقع من الناس ما تفعله لهم وعندما
يحدث عكس ذلك تصدم لكنك لا تتعلم , ولا
تعرف كيف تعاملهم بالمثل , فتحسن إلى من
يسيء إليك , وتعفو عمن تقدر عليه ومن لا
تقدر عليه , وترضى بسرعة إذا غضبت , ولا
تتسرب قطرة من حقد أو كراهية إلى قلبك
لأنك تغسله بذكر الله كل ليلة قبل أن تنام من
أوضار الدنيا , ذلك إيماناً منك بأن من يطمع في
عفو الله ومغفرته فليتسامح مع عباده .
ومع ذلك كله , عليك ألا تتغير , وثق تماماً أن
من يفعل ذلك يتولى الله أمره في كل شيء ,
ويتكفل بأجره وفقاً لقوله تعالى : (فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) [ الشورى : 40 ]
ولا يكون الأجر على الله إلا في الأمور التي
يتجرد الإنسان فيها من الطمع في طلب
المثوبة وعدم انتظار الشكر أو الثناء من الناس ,
وهي أشياء زائلة ومؤقتة ولا تستمر طويلاً ,
لأن رأي الناس فيك قد يتغير في لحظة شك أو
سوء ظن أو وشاية أو هوى .
وثق تماماً أنك إذا طلبت مرضاته وحده في كل
ما تفعل وتقول فسيدافع عنك الله عز وجل :
(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) [ الحج : 38 ]
وسيرضى عنك - بهداه وتوفيقه - كل من تريده
أن يرضى عنك من البشر , أما إذا طلبت رضا
الناس وحدهم فإنك ستلهث كثيراً وتتعب كثيراً
, ولن تظفر بالرضا الذي تريد , وقد قالت العرب
قديماً ( رضا الناس غاية لا تدرك ) .
لهذا فإن رب العباد اختصر لك الطريق حين
وجهك بالتقرب إليه لتجد نفسك قريباً من عباده
, افعل الخير لمن يستحق , فإن كان فيمن لا
يستحق , فإن الله لن يعدم أجرك , ولا تندم
على معروف قدمته لمن لم يشكرك ولم يحفظ
لك حسن صنيعك .
واستمر وسامح من كل قلبك , ولكي تثبت
لنفسك طهارة قلبك من رجس الانتقام ,
أحسن لمن أساء إليك في أقرب فرصة ممكنة ,
ولا تقل : إني تسامحت وكفى , فهذا دليل أن
في قلبك غلاّ عليه , وثق أنك حين تفعل ذلك
فستعلِّمه كيف يتسامح ويحسن , وسيكون لك
الأجر العظيم في فضل المحبة والتسامح بين
الناس , والدفع بهذه الأمة نحو مجتمع أنقى
وقلوب أطهر .
اجعل دعاءك كل ليلة قبل أن تنام ( اللهم إني
عفوت عمَّن ظلمني وأحسنت لمن أساء إليَّ
وتصدّقت بعرضي على الناس فاسترني فوق
الأرض واسترني تحت الأرض واسترني يوم
العرض وأدخلني في واسع رحمتك يا أرحم
الراحمين ) .
وأنت تعرف أن الإنسان المسلم ليس له مطلب
أعظم من الستر في المواضع الثلاثة التي
ذكرها الدعاء , في الحياة , وفي الممات ويوم
الحشر , وما أرخص الثمن أمام هذا العرض
العظيم , التسامح مع الناس والإحسان إليهم ,
واعمل بذلك الدعاء بصدق في معاملاتك
اليومية , وثق تماماً أن الطيب لا يستطيع إلا أن
يكون طيباً , فهل تستطيع الوردة أن تغير
رائحتها الزكية إذا ما شمها من لا يستحقها ؟
كذلك النحلة لا تستطع أن تستبدل عسلها
بـ ( السم ) وقد ضرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم المثل بهذا المعنى حين قال :
( مثل المؤمن مثل النحلة لا تأكل إلا طيباً ولا
تضع إلا طيباً ) .
فالعسل لا يمكن أن يكون مراً على لسان آكله
مهما خبثت دخيلة آكله , وليس أمام الطيب
من خيار إلا أن يكون طيباً , ولن تغير معدنه
أوقية من الخبث !
المصدر : التعامل مع النفس والناس كما علمنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدكتور : محمد أبو بكر حميد