صورة الإجهاز على جريح الفلوجة.. تسريب أم تهريب؟
صورة الإجهاز على جريح الفلوجة.. تسريب أم تهريب؟
تقارير رئيسية :عام :
'إن أهداف تحالفنا واضحة ومحددة؛ فسوف ننهي نظامًا وحشيًا طالما كانت اعتداءاته وأسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها خطرًا شديدًا على العالم.. وسوف تقوم قوات التحالف بالمساعدة على حفظ الأمن وسيادة القانون حتى يستطيع العراقيون أن يعيشوا في أمن وأمان؛ سوف نحترم تقاليدكم الدينية العريقة التي تتحلى بالمساواة والمودة، وهي الأسس الرئيسية التي يرتكز عليها مستقبل العراق، سوف نساعدكم على بناء حكومة مسالمة وممثلة [من كافة أطياف الشعب] تحمي حقوق كل المواطنين، وعندئذ سوف تغادر قواتنا العسكرية، وسوف تتقدم العراق للأمام كدولة موحدة مستقلة لها سيادتها، حيث ستستعيد مكانتها في العالم كما كانت تحظى من قبل باحترام وتقدير الجميع'.
هكذا تحدث بوش في خطابه يوم الخميس 10 أبريل 2003، بعد سقوط النظام العراقي ودخول بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية.. هكذا كانت الرسالة الإعلامية الكاذبة للاحتلال، وهكذا كان النفير الإعلامي الذي صادف صمتًا وخواءً عربيًا إلا من بعض الشرفاء، ذلك النفير الإعلامي الكاذب الذي اتخذ أشكالاً عدة وتلون في ألوان الحرباء التي دخلت حقل العراق لالتهام الأخضر واليابس.
وسرعان ما قفزت صورة نابليون بونابرت إلى مخيلتي وأنا أقرأ تلك الكلمات، أتخيله بنموذج إعلامي آخر للغزو، اختلف في طريقته واشتبه في مضمونه وهدفه، أتخيله بخيله ورجله داخل الأزهر الشريف، دنس المساجد بعد أن عبر عن احترامه للدين الإسلامي، وقال أنه قد جاء بناءً على طلب الدولة العثمانية لإزالة ظلم المماليك, فبعد أن دانت له البلاد سرعان ما فتح حانات الخمور وصادر أموال الأوقاف وقام بجباية الضرائب الباهظة. وبعد ثورة القاهرة الأولى لم يتوانى عن قصف الأزهر بالمدافع، وأنشأ ديوانًا ضم النصارى والجاليات النصرانية المقيمة بمصر.
لم يستطع بونابرت أن يخفي وجهه القبيح من خلال رسالته الإعلامية المضللة مثلما لم يستطع بوش، ولم ينخدع أهل مصر بنفاق بونابرت، وكان المسلمون على قلب رجل واحد، لم يكن هناك تحالف شمالي ولا جنوبي، ولم يكن هناك شيعة ولا أكراد، كما لم يكن لدى المسلمين إلا السيف في مواجهة المدافع والبارود، ولكن هب الشعب كله ضد الاحتلال حتى أخرجوه من مصر صاغرًا بعد أقل من ثلاث سنوات، قاومه المسلمون حتى أسوار عكا، وهب شيوخ الأزهر وقالوا كلمة حق ضد المحتل برغم النفي والتنكيل، فجاءهم المدد من الله مكافأة على وحدتهم؛ ضرب الله جنود الحملة الفرنسية بطاعون أتى على علوجهم، وقام سليمان الحلبي الاستشهادي من الشام بتنفيذ عملية لاغتيال كليبر كبير قادة بونابرت بمصر، واندلعت اضطرابات داخل فرنسا أجبرت بونابرت على الخروج من مصر والشام صاغرًا، ونصر الله المسلمين عندما نصروه، ولم يذهب الله ريحهم عندما لم يفشلوا ويتنازعوا.
واليوم تشهد الفلوجة السنية الأبية غزوًا صليبيًا من قوات الاحتلال الأمريكي بأسلحته العسكرية والإعلامية، وأبواقه التي لا تطلق إلا ما تريد إطلاقه، وتحجب ما سوى ذلك، ويساعدها على ذلك التواطؤ الداخلي في العراق، تواطؤ قلب الحق باطلاً والباطل حقًا، داهن المحتل وخنع له لدرجة أنه باع له سلاحه, وهي سابقة قل أن يوجد لها نظير في التاريخ الإسلامي، في ظل صمت عربي مشين، صمت سوف يسطره التاريخ بكلمات من الخزي والعار، كلمات ستعجز عن وصف المشهد العربي الصامت إزاء تدمير مساجد الفلوجة ومستشفياتها ومنازلها وقنص الأعزل قبل المحارب، بل قتل الجرحى العزل داخل المساجد.
وقد كان استهداف المساجد وتدنيسها جزءًا لا يتجزأ من تلك الحملة الأمريكية على الفلوجة، بعد أن تم تسوية 33 مسجدًا بالأرض من أصل 120 مسجدًا أصيبوا بأضرار من عمليات الفلوجة، كما لم يكن مستغربًا أن يبدأ الاحتلال حملته على الفلوجة باستهداف المستشفيات ووضع القناصة عليها، مستشفى تلو الآخر؛ حتى المستشفيات البديلة، إضافة إلى سيارات الإسعاف ومنع الأطقم الطبية لفترات طويلة من الدخول لدفن الجثث التي تعفنت في شوارع الفلوجة.
وقد استوقفنا جميعًا مشهد الإجهاز على جريح الفلوجة الأعزل داخل أحد مساجد المدينة، والذي بدا جريحًا بين كثير من الموتى.. جريحًا بين 300 مليون عربي أراد الاحتلال لهم أن يكونوا موتى هم أيضًا، وأرسل إليهم رسائل واضحة وكثيرة من خلال تلك اللقطة السريعة التي لم تكن مجرد عملية إجهاز على جريح بمسجد بمدينة سنية، ولكنها كانت رسالة إعلامية إلى المنطقة بأسرها.فكيف مرت تلك اللقطة الواضحة الشائنة على أعين رقابة الجيش الأمريكي الذي يجند الصحفيين المرافقين مع القوات، ويملي عليهم ما يصوروه وما لا يصوروه، والزاوية التي يلتقطون منها صورهم، ونسبة اللقطات التي يظهر فيها جرحى أمريكيون ـ إضفاءً للمصداقية ـ، وكأن الجيش يخرج فيلمًا من إنتاج هوليوود يمجد الجيش الأمريكي والجندي الأمريكي والقيم الأمريكية والديموقراطية الأمريكية.
وقد اتخذ المصور المرافق للقوات وضع التصوير لبرهة واتجه ناحية الجريح بوضوح وانتظر إطلاق النار، في حين لم يبد على الجندي أي تردد ولم يلوح للمصور لإبعاد كاميراه، ولم يبد على أي من الجنود ملامح الاستغراب أو الاستنكار بعد الإطلاق، كما لم يكن هناك ما يشير إلى أن أولئك الجرحى في المسجد من المقاتلين، فلم يكن معهم سلاح وكان بعضهم ملتف ببطاطين، إضافة إلى تأكيد الأطباء على أن المساجد يتم استخدامها كمستشفيات في معارك الفلوجة، وليس بالضرورة أن من يعالج فيها من المقاتلين، فبعد استهداف المستشفيات تم اتخاذ المساجد لعلاج جميع جرحى الفلوجة من المدنيين والمقاتلين، ولكن الجندي لم يبد عليه التردد, أو التفكير للحظة أنهم ربما كانوا جرحى مدنيين، كما لم يبالي الاحتلال بتدنيس حرمة المسجد، وفي كثير من الحالات اتخذوا المساجد كقواعد لهم ودخلوها بأحذيتهم والتقطوا الصور داخلها، كما لم يبالوا من قبل بانتهاك حرمة المستشفيات، مما يطلق العديد من علامات الاستفهام حول هدف إظهار تلك الصور أمام العالم.
ولم يكن مستغربًا أن يظهر شريط قتل الجريح في خضم عمليات الجيش الأمريكي في الفلوجة، وليس مصادفة أن فضائح صور سجن أبو غريب أطلقت هي الأخرى في حملة الفلوجة الأولى منذ عدة أشهر، والمتمعن في ظروف إطلاق تلك الصور سيرى أن الجيش الأمريكي استفاد منها على الأرض أكثر مما تضرر أضعافًا مضاعفة، فماذا خسرت أمريكا من نشر تلك الصور؟ هل تلطخت صورة أمريكا أمام العالم؟ هل نقضت الدول ائتلافها العسكري مع الولايات المتحدة؟ هل توقفت عمليات التعذيب في السجون؟ هل سُمح للمنظمات الإنسانية بزيارة السجون وتفقدها؟ هل أقيل وزير الدفاع وقادة الأركان أو حتى قائد العمليات العسكرية؟ بل هل حتى سقطت حكومة بوش في الانتخابات الرئاسية؟ لم يحدث شيء من ذلك، ولكن الجيش الأمريكي نجح في توصيل رسالة ضمنية إلى المتعاطفين مع المقاومة داخل وخارج العراق: اختاروا طريق الديموقراطية الأمريكية والحل السياسي عن طريق الانتخابات.. أو اختاروا طريق الجحيم الأمريكي.. هذه هي الصور.. والاختيار لكم.
وقد استخدمت الحملة الفرنسية على مصر أسلوبًا مشابهًا لتوصيل رسالتها الإعلامية إلى المسلمين؛ فبعد أن قام سليمان الحلبي باغتيال كليبر حكم الفرنسيون عليه بأن تحرق يده اليمني، ثم يتم وضعه على خازوق حلب، وتبقى جثته معلقة تأكل الطير منها حتى الموت، وهي رسالة متكررة للاحتلال في كل عصر وزمان.
ومشهد قتل الجريح بمسجد الفلوجة لم يكن ليتم بأفضل من ذلك الإخراج الهوليودي، فإذا ما غصنا داخل العقل الأمريكي فلن نجد شيئًا في ظنهم يمكن أن يردع المقاومة أفضل من ذلك، فلا يوجد أفضل من توصيل تلك الرسالة التي مفادها أن القوات الأمريكية قوية شرسة بلا تسامح ولا عفو ولا حقوق إنسان ولا معاهدات دولية، كما لم تنس القوات الأمريكية أن تكتب على مظروف تلك الرسالة عناوين الحكومات العربية، واللبيب بالإشارة يفهم، وقد فهم النظام الليبي الإشارة الخاصة بوضع السلاسل في أيدي صدام حسين وتصويره، ولكن يبدو أن أمريكا رأت أن هناك من لا يزال بحاجة إلى مزيد من الشرح والتوضيح، وأنها قادمة بكل قسوة وتصميم على تنفيذ مخططاتها في الشرق الأوسط.
ومن بين التلاعب الإعلامي الأمريكي في حرب الفلوجة هو ما يظهره الجيش من لقطات فيديو متكررة لانتصارات وهمية أمريكية، وإطلاق تصريحات كاذبة بناء عليها بأن القوات قد احتلت 80% من الفلوجة.. إلخ، وقد صرح الشيخ مثنى حارث الضاري المسئول الإعلامي بهيئة علماء المسلمين أن 'القوات الأمريكية والحكومة العراقية لا ينشران حقيقة ما يحدث بالفلوجة، ويعيدان توزيع لقطات فيلمية مصورة مكررة على وسائل الإعلام لإخفاء حقيقة الأوضاع، ويتحدثون في الوقت نفسه عن سيطرتهم على 80% من المدينة'، وأضاف: 'لاحظنا أن اللقطات تعاد أغلبها يوميًّا، وأن بعض اللقطات التي ظهرت يوم الجمعة 12-11-2004 ليست للأحياء التي تدعي القوات الأمريكية أن المعارك تدور فيها، بل هي في أطراف المدينة، كما أنهم لم يظهروا حتى الآن صورًا لأي من المقاتلين العرب الذين كانوا أحد ذرائع الهجوم، كما أن بعض اللقطات تظهر فيها الأجواء ممطرة، بينما كان المطر فقط في اليوم الأول لبدء المعارك يوم الاثنين 8-11-2004'.
وما فعلته أمريكا لهو دليل واضح على نجاح الحملة الإعلامية المضادة التي قامت بها المقاومة العراقية، والتي استطاعت هي الأخرى أن توصل رسائل شديدة اللهجة إلى الاحتلال ومن يتعاون معه، ودليل على أن المقاومة فرضت استراتيجتها الإعلامية على الاحتلال الذي لعب بنفس طريقة المقاومة التي أمطرت الاحتلال بمقاطع فيديو لذبح المتعاونين وللعمليات الاستشهادية وعمليات السيارات المفخخة وإسقاط الطائرات الأمريكية.
وسيظل الإعلام الأمريكي يكذب، وسيظل قادة أمريكا يكذبون، ولن ينتهوا عن إخفاء خسائرهم وأعداد قتلاهم الحقيقية في العراق، وسيظل إعلام الاحتلال يبث الكذب وينشر الوهن والأراجيف بين المسلمين، ما لم يرتق الإعلام العربي والإسلامي إلى مستوى الحدث ومستوى التحديات الملقاة على كاهله، ويجد طرقًا لوقف التهديد الأمريكي لوسائل الإعلام، ويتمثل أبسطها في التحالف مع كبار مناهضي الحرب من الأمريكيين ذوي الثقل الإعلامي لتأمين الجانب العربي وتمرير شرائط المقاومة من خلالهم، ومن المؤكد أنهم سيرحبون بتلك الإضافة إلى تاريخهم ـ مثلما فعل سيمور هيرش وغيره ـ ، وإلا فلن يغفر التاريخ لأولئك الذين يشاركون ضمنيًا في موت الحقيقة على مذبح الاستعمار.
اخوكم عبدالرحمن
21-11-2004, 12:28 AM
تعليمات المشاركة
المواضيع المتشابهه
العرض العادي
