العنصرية والأمثال الشعبية المغربية !!!
تختزن الذاكرة الشعبية لمختلف الأمم والدول والجماعات البشرية، العديد من المظاهر الثقافية والنفسية والاجتماعية التي تؤطر الكائن البشري داخل نسق ما يسمى بالوعي الجمعي، أو الثقافة الشعبية التي تختزنها ذاكرة الإنسان المنتمي لبيئة حضارية معينة. هذا الوعي الجمعي تساهم فيه الكثير من المؤطرات النفسية والثقافية بتشكيل نسق نمطي يسعى الإنسان داخل بيئة معينة أن ينساب وراءه طوعا أو كرها، ولا يجرؤ في الكثير من الأحيان أن يتخطى عقباته إلا بشق الأنفس، نظرا للإحكام الخطير والمحاط بسياجات معرفية مختلفة تبدأ بالقمع، وتنتهي بالتأطير القسري للعقل الإنساني شاء أم أبى. ولعل خير ما يمثل هذا الوعي الجمعي والذاكرة الشعبية ما تعرفه جميع الثقافات والحضارات على حد سواء من اختزال الرؤية النمطية اتجاه موضوعات الحياة المختلفة عبر ما يسمى ب " المثل الشعبي ".
اعتُبِر المثل الشعبي على مر التاريخ المؤطر الرئيسي، والخزان الثقافي الكبير المعبر عن درجة وعي المجتمع وتخلفه ونظرته لمختلف أجزاء هذه الحياة ومناحيها، وشكَّل على مرِّ العصور ولا زال أحد الروافد الخطيرة في تكريس بعض المظاهر الاجتماعية والفكرية المساهمة في قضية النمطية الفكرية. والمثَلُ عند من اشتغلوا بالحقل اللغوي العربي كان يدل على الشبه والنظير، وهو عبارة عن جملة مختصرة مصاغة بشكل جيد، تمتاز بمواصفات القبول والتداول على ألسنة الناس و سهولة اللغة وجمالية الجرس الموسيقي. وكذلك أشارت إليه المعاجم الفرنسية إذ المثل فيها أي proverbe هو جملة خيالية ذائعة الاستخدام ، تدل على صدق التجربة أو النصيحة أو الحكمة ، يرجع إليها المتكلم . وقديما عرفوا المثل بأنه حكمة شعبية قصيرة تتداول على الألسنة، أو هو جملة غالبا ما تكون قصيرة، تعبر عن حدث ذى مدلول خاص، لكن يبقى على المستمع تخمينه .
وهكذا فالمثل احتل مكانة مهمة في الدراسات الأدبية بشكل عام، ولا زال الدرس الأدبي يلقي بكل آلياته ووسائله المتاحة من أجل وضع هذا المعطى للدراسة والتحليل. وسنحاول بدورنا أن نجعل من المثل الشعبي والذاكرة الثقافية مرجعا فكريا نستخرج من خلاله موضوعا من المواضيع الخطيرة في بنية مجتمعاتنا العربية والشرقية بشكل عام، هذا الموضوع المتعلق بجانب من الجوانب الحساسة في التكوين النفسي لشخصية الإنسان، مهما كان توجهه المذهبي و العرقي و الفكري، إنه ببساطة موضوع العنصرية racisme في المثل الشعبي، حين يتحول هذا الأخير إلى حاضن لمختلف التوجهات العنصرية التي تحملها الذاكرة الشعبية من قريب أو من بعيد، ومساهما بدرجة من الدرجات في المحافظة على هذا المسار العنصري المقيت بين أطراف المجتمع الواحد بله بين الأنا والآخر.
ولمعرفة هذا الجانب من جوانب الأزمة الثقافية نشتغل على بعض الأمثال المعبرة عن أنساق عنصرية بمختلف تلاوينها:
1- المثل والعنصرية القبلية:
تعد العنصرية القبلية من العناصر الخطيرة في بنية المثل الشعبي والتراث الشفوي المغربي، وترتكز أساسا على الافتخار بالانتماء إلى القبيلة، وحسن معدنها وطبيعة سكانها وأصالتهم وأصالة أخلاقهم، في مقابل القبيلة الأخرى الممثلة لقيم الانحطاط والتخلف والانحدار الثقافي والاجتماعي، ونظرة في بعض الأمثال المغربية المؤسسة لهذا الفكر القبلي تجلي الأمر بوضوح، حين ترسم عداء متواصلا بين مدينتين تاريخيتين تحكمهما علاقة جوار تاريخي وحضاري طويل بالقول:" لو كان الرمل زبيب وبو رجراج حليب، عمَّر السلاوي ما يكون للرباطي حبيب "، فالمثل يجعل من ساكن مدينة سلا وساكن مدينة الرباط وهما مدينتان متداخلتان جغرافيا وتاريخيا أعداء واستحالة خلق أي أجواء من المحبة المتبادلة، حتى لو صار الرمل زبيبا أو بورجراج حليبا، فالعنصرية القبلية ترسم الاستحالة الخطيرة في بنية المثل والعداء بين السلاوي والرباطي على امتداد فترات التاريخ.
ويزيد المثل في ترسيخ هذه الفجوات الثقافية بين القبائل والسكان، حين يجعل من القبيلة رمزا للانحطاط الفكري بقوله:" بني مسكين عشرة في عقيل "، وقبيلة بني مسكين من نواحي مدينة السطات المغربية، التي تمتاز بخصوبة أراضيها وفلاحتها ومساهمتها في القطاع الفلاحي بدرجة من الدرجات، ولكن العنصرية الشعبية تجعل من ساكنيها لا يملكون العقل الكافي في تعاملاتهم، حيث يقتسم كل عشرة منهم عقلا واحدا لمدينة أخرى. وبخصوص تفاهة كلام بعض القبائل يأتي المثل الشعبي ليرسخ هذه الفكرة بقوله:" كلامكم يا البرابر قولوه وعاودوه " ، والمقصود سكان المغرب من البرابرة والأمازيغ. ولاحتقار القبيلة لجنسها أو لونها أو أصولها الإفريقية يأتي المثل ليقول:" على قلة الوالي، نقول للضراوي خالي "، أي لا يمكن أن يقول شخص للضرواي وهو صاحب اللون الأسود، وغالبا يكون منحدرا من أصول صحراوية خالي " أخ الأم "، فهذا من سابع المستحيلات في العقلية العنصرية المميزة بسبب اللون.
2- المثل والعنصرية المهنية:
وأقصد بالعنصرية المهنية تلك السلوكات والمقولات التي تزدري نوعا من المهن، وتحط منها اجتماعيا بحيث يعيش من يعمل بها حالات اجتماعية ونفسية شكلتها الأمثال، والمقولات المأثورة في العقلية الجمعية للإنسان المغربي والشرقي عموما.
ولنقرأ المثل التالي لنكتشف فيه عمق ما أشرنا إليه سابقا:" السوسي المرا والتجارا، العروبي المرا والحمارا، والمديني المرا والخسارة "، ويقصد بالسوسي ساكن مدينة سوس الأمازيغية، وغالبا ما يكون مهتما بجانب التجارة حتى لو كان متزوجا وهو المعبر عنه " بالمرا " أي المرأة، أما العروبي وهو الساكن في القبائل العربية غير الناطقة بالشلحة أو الأمازيغية المغربية بمختلف تلاوينها، فلا يملك إلى جانب زوجته إلا حمارته يسقي عليها أو يحرث ولا يهتم غالبا بما هو تجاري، ليختم بالمديني أي ساكن المدينة والمجال الحضري فهذا ليس له إلا المرأة و الخسارة، بسبب متطلبات الحياة واهتمامه بالكماليات والجماليات التي تتطلبها الحياة المدينية.
ويزيد المثل الشعبي تحقيرا لبعض الأعمال الاجتماعية وهي ما كان يسمى بالخدم في المنازل أو عند الطبقة النافذة في المجتمع فيقول:" الخادم باللثام، بحال الحمارة باللجام "، فالخادم كانت غالبا ما ترتدي اللثام الرامز إلى الحشمة والوقار، فكان يتم تشبيه لثامها بالحمارة ذات اللجام وهي قمة العنصرية الاجتماعية، المعبرة عن التفاوت الطبقي داخل بنية المجتمع. وحتى الذين يُسْدُون للمجتمع خدمات كبيرة بتعرضهم لأعمال شاقة، غالبا ما تم ازدراؤهم من طرف العقل الجمعي والثقافة الشعبية بقول المثل لمن مثلا يعمل في أفران الخبز الشعبية المعروفة في مجتمعاتنا:" بحال مول الفران، وجهو للنار، وظهرو للعار "، فالمثل يشبه أي شخص ينطبق عليه المثل بصاحب الفران " مول الفران " الذي يطهو الخبز للناس، فبالرغم من خطورة عمله الشاق بتولية وجهه إلى بيت النار وصعوبة ذلك، لا يسلم في الغالب من انتقادات الآخرين حين لا يحسن طهي الخبز أو حرقه وهو المعبر عنه ب " ظهرو للعار " أي ظهره لعار الناس وانتقاداتهم.
3- المثل والعنصرية الدينية:
يبقى الدين أحد العناصر المركزية التي تنبع منها الكثير من العنصريات، حين تصبح العقيدة والتوجه الديني مستحكما في طبقات اجتماعية، تُعامل الآخر المختلف معها على هذا الأساس العقائدي والمذهبي. والمغرب كما يعلم الجميع تعيش فيه أقلية يهودية منذ فترة طويلة تنعم بمختلف العنايات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلا أن هذه الأخيرة لم تستطع أن تندمج بشكل كلي بين أحضان المجتمع ومختلف تلاوينه العرقية والاجتماعية، فعاشت عزلة لا زالت آثارها مجسدة عبر ما يسمى بالملاحات أو أماكن تواجد اليهود وإقاماتهم. وليست هذه القضية منفصلة عن التاريخ الشعبي، فقد حمل الوعي الجمعي عبر مختلف الأمثال الشعبية والمنقولات الشفوية هذه العنصرية الدينية، الناتجة بالأساس على سيطرة الجانب العقدي والديني في تشكيل هذه النزعة.
ولننصت إلى بعض الأمثال الحاملة لهذا المشروع الصراعي والصدامي، حين يشبه الشخص بالفقير اليهودي فيقول المثل:" بحال مزلوط اليهود، لا دنيا لا آخرة "، ويقصد ذلك الفقير اليهودي فهو لا يملك دنيا يتمتع بها وهو في الآخرة أيضا من الخاسرين، وهو تشبيه يقولونه لمن يعيش وضعية مزرية متناسيا الجانب الديني كما تفهمه العامة وتمارسه. ويزيد المثل ترسيخا لقسوة اليهودي وصلافة أخلاقه بالقول:" جا لوسط الملاح، وقال ألعاشقين في النبي صلوا عليه "، وهي تقال للشخص الذي يقصد وجهة لا يتم الاستجابة إلى مطالبه فيها، فيتم تشبيه القبلة بالملاح أي المكان الذي يقيم فيه اليهودي، فلا يمكن أن تنبعث من هذا المكان إلا كل قيم التجاهل والمكر والخديعة. أما عن تشبيه خصال اليهودي ومدى عزوفه عن التعاون والتكافل فيقال في شأنها:" الثقُل والعقبة والحمار يهودي "، أي يتم تصوير مشهد رهيب لمن لا يتعاون في خضم مهمة من المهمات، والصورة تحمل مشهد الأثقال ومشهد العقبة والحمار اليهودي، فلا يمكن أن تستمر المسيرة بهذا المشهد حتى لو كان الحمار مسلما فكيف باليهودي، فستتوقف الحركة نهائيا، وللعقل أن يتصور المشهد ودلالاته في المخزون الثقافي الشعبي.
وختاما أقول:
بأن المثل لا زال يحتكر الساحة الفكرية على مختلف المستويات والأصعدة، فهو من جهة موجه للعقل الاجتماعي نحو النمطية، ومن جهة أخرى مكرس للقيم الثقافية سلبا أو إيجابا. هذا المعطى لا يمكن تصور خطورته إلا في ظل واقع ينتمي لبيئة واحدة وعنصر واحد ولغة واحدة، وتُفَرِّقُه الأمثال الشعبية بوعي أو بغير وعي، عبر ما تختزنه من مدلولات ثقافية وتاريخية تحمل في بعض من جوانبها ما أشرنا إليه من عنصريات متعددة، أتينا على بعضها ونترك البعض الآخر للنقاش والتفاعل. وعليه فلا يمكن أن نستجدي تنمية أو نهضة منشودة في ظل واقع توحده السياسة بفعل القوة، وتفرِّقه المظاهر الثقافية المكرِّسة للأزمات الثقافية. وأتمنى أن أكون قد وفقت في نقل الصورة وفتح المجال أمام القراء لنقل بعضا من الإشكاليات المرتبطة بواقعهم من خلال الموضوع المطروح للنقاش، أو مواضيع أخرى تلامسه من قريب أو من بعيد عبر تجارب بلدانهم أو البلدان التي يقيمون فيها.