
الــتــفــاؤل ... حــيـــاة (2)
أخي الحبيب
لقد كان في اللقاء الأول حديث عن التفاؤل ، ولقد بشر ـ عليه الصلاة والسلام ـ بفتح
صنعاء وحضرموت ، وقد توفي وهو لم يشهد ذلك الفتح ، ومع ذلك لم يحمله استطالة
الطريق أن ينحرف عن الهدف ، ولم يتكاسل في تربية أصحابه ، بل أخبرهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ
أن النصر والفتح وهداية الناس بيد الله وحده ، وانتظارهما من قبل العاملين ليس صحيحاً
وليس من الطموح والهمم العالية ، بل هو من الاستعجال .. الاستعجال الذي هو أكبر خطأ
يقع فيه كثير من الذين ظاهرهم الاستقامة ودعواهم الإصلاح ، أياً كانوا وحيثما وُجدوا
لقد ذكرهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بمن سبقهم من المستضعفين ، ليكون لهم زاداً في
طريقهم الذي يشتكون منه ، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم
وبشرهم ووعدهم حتى لا ييأسوا من العاقبة ... والعاقبة للمتقين ، كل ذلك ليتربّوا تربية
إسلامية فدائية ، تربية مضمونها التضحية والتفاني في سبيل الله ، والتجرد من أهداف الدنيا
والتطلع إلى ما هو أعلى من ذلك .. إلى ما عند الله
{ ومَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ }
فمن واجبنا أن نمضي متفائلين عاملين ، ولا نتطلع إلى شيء إلا لمرضاة الله ورحمته ..
هذا هو الهدف الحقيقي والغاية الكبرى ، بل إنها الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبنا
فلا بد أن نعلم أن واجبنا هو العمل والإتقان دون انتظار النتائج ، فإن النتائج بيد الله
كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " عرضت عليّ الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهيط
والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد "
فلنكن على عمل مستمر ، ولا تحملنا استطالة الطريق وما فيه من عوائق أن ننحرف عن الهدف
ولنا في أنبياء الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أسوة حسنة ونماذج خيرة ..
فهذا نبي الله نوح لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ، طوال هذه السنين وهو يدعو قومه
ليقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وفي النهاية قال الله له
{ لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا..}
يعني لا تحزن ، ثم أمره بعد ذلك بصنع السفينة
{ واصنع الفلك }
فعليك أن تواصل المسيرة بالتفاؤل والعمل دون فتور وكسل ، أو خمول واتكالية
وأن تستمد غذاء عملك ومسيرة حياتك من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وليكن هدفك بعيد المدى ، ولك في نبيك ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة
لقد هاجر طريدا مُهْدَر الدم ، ومع ذلك نجده في غاية الثقة والاطمئنان ، فيخاطب سراقة
أحد متعقبيه ، والطامعين في قتله أو أسره ، رجل مدفوع وموعود بجائزة كبيرة ، لكنه
خاطبه من زاوية حادة ، تحمل أبعادا كثيرة ، فقال له
" كيف بك إذا لبست سوارَيْ كسرى؟"
لقد وضع بين عينيه أهدافاً جليلة بعيدة المدى ، أنسته جائزة قريش
لقد وجد عند سراقة همة عالية ، ونفس حية ، وشجاعة موجهة في غير محلها
فاستغل ذلك كله بقوله
" كيف بك إذا لبست سوارَيْ كسرى؟"
إنها دعوة لتوسيع الأفق ، وتعميق النظر والانطلاق إلى تلك الرحاب الواسعة لاستشراف
آفاق مستقبل غير منظور، ومن ثم السعي الحثيث لاستثمار الحاضر بكل إمكاناته
لبناء المستقبل وترسيخه وإزالة عوائقه ومشكلاته
وفي الخندق يأتي التمييز ، يحاصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه من الأحزاب
من كل ناحية ، والحالة التي هم فيها أن أحدهم لا يأمن على نفسه حين يذهب إلى الغائط
ويمكث ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الفاقة ثلاثاً بدون طعام مع ضخامة الجهد المبذول
في حفر الخندق ، ومشقة العمل ، وقيامه بترتيب شؤون الناس وإعدادهم للنزال
وحمله همَّ الولوج في معركة فاصلة ، تداعى لها الأعداء من كل حدب ، وحال المؤمنين
كما وصف ربنا تعالى { إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ
القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا }
في تلك اللحظة نجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبعث الطمأنينة في نفوس أصحابه
ويعمق ثقتهم بالله ، ويبعث التفاؤل والأمل في دواخلهم ، فيقول
" أُعطيت مفاتيح الشام ... أُعطيت مفاتيح فارس ... أُعطيت مفاتيح اليمن "
رواه أحمد ، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح
والعجيب أنَّ الناس انقسموا بعد هذا الوعد فريقين:
فأخبرنا الله عن قول الفريق الأول { وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}
ثم جاء وصف الفريق الثاني بقوله
{ وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}
موقفان متقابلان: موقف المريض الهزيل العالة ، وموقف المطمئن الراسخ في تصديقه
الثابت على دينه ، الذي لا ينهز ولا يضعف ، فازداد أهل الإيمان إيمانا مع إيمانهم
وازداد أهل النفاق رجسا إلى رجسهم ، وهذه الزيادة مستمرة إلى يوم القيامة
وبعد ما تبين من غزوة الأحزاب ننتقل إلى أحُد ، هناك انكسر المسلمون ، وقُتِلَ من أَجِلَّة
الصحابة من قُتل ، وفي أثناء تلك المعركة نزَّل القرآن ليؤكد حقيقة في غاية الأهمية وهي:
أن الإنسان المؤمن يشعر بالعزة والرفعة والعلو دائماً ، ولا يتطرق الوهن أو اليأس إلى قلبه
حتى في حال الانكسار ، قال تعالى { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }
إنَّ الإحباط لا يعرف طريقه إلى القلوب المطمئنة بذكر الله ، بل هي شامخة بإيمانها
معتزة بدينها ، قادرة على مواجهة الأحداث كلها مهما بلغ سلطانها وبلغت قوتها
أمَّا أصحاب النفوس الضعيفة التي عبث بها فساد المفسدين حتى قعد الكثير منهم عن
العمل بهذا الدين فهو مشغول مع الشبهات والشهوات ، قلوب عمرها اليأس والقنوط
حتى أصبحت تخاف من ظلها ، أحاط بهم الفشل والإحباط من كل جانب ، نظروا للواقع بعين
الفساد والظلم ، وتعاملوا مع واقعهم بما يخدم أهوائهم ورغباتهم
فأصبحوا عالة على أنفسهم ومجتمعهم ، نسأل الله لنا ولهم السلامة والعافية
هذا وإلى لقاء آخر ... فتفاءل معي