بيت فى القريه ( قصه تراثيه من الز مان الماضى )


المجلس الـــــعــــــــام للمواضيع التي ليس لها تصنيف معين

 
قديم 15-03-2009, 11:52 AM
  #1
سعد ابوحيمد
..::قلم من ذهب::.
.:: روائـــــي ::.
تاريخ التسجيل: Apr 2007
المشاركات: 224
سعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond reputeسعد ابوحيمد has a reputation beyond repute
افتراضي بيت فى القريه ( قصه تراثيه من الز مان الماضى )

بيت فى القرية
بقلم : سعد ابو حيمد

حل الليل ، وانتشر الظلام الدامس ، وكسا الكائنات المنتشرة في أنحاء القرية حتى أمست المعالم غير واضحة : فالسماء مغطاة بالسحب الكثيفة ، والرياح الباردة تضرب بقسوتها في كل اتجاه فقد نشر الشتاء القاتم ظلاله وراح يرسل موجات متتالية من رياحه الموحشة المزعجة ، والتي تكاد تنتزع بعض الأشجار المنتشرة في أطراف القرية والتي كانت أشد قسوة على بعض أشجار النخيل ذات الجذوع العالية . وبيت هناك يقبع في أطراف القرية بيت سكانه يشعرون بوطأة الشتاء أكثر من غيرهم ولم يكن هناك شيء يميز هذا البيت فهو ككل بيوت القرية بني من الطين واللبن ، وسقوفه من خشب الأثل وجريد النخيل ، وأبوابه من جذوع النخل التي قد شقت إلى صفائح جرى صفها وضمها بعضا إلى بعض ثم وضع لها عوارض من خشب الأثل وثقت ببعض المسامير البدائية المصنوعة محليا . أما الأبواب الثانوية فقد صنعت من جريد النخل المجرد من خوصه . أما تفصيل البيت فهى : (المطراق ) و هو المدخل ، و( المجلس ) الذي يحتل ركنا منه ( الصلل – الوجار – الموقد ) الذي تعد فيه القهوة ، وهناك ( المصباح ) المكان الذي تنام وتأكل فيه العائلة . وهناك سقيفة المواد أو المخزون ، وبها (جصة التمر ) . تمويل كامل العام من التمر ، والقليل من الحنطة والرز ، وحبال الشريح ( اللحم المقدد والمجفف ) . البيت واسع بعض الشيء ، وفيه حوطة واسعة ( فناء ) ، وفي ركن الفناء هناك غرفة بدون باب ، وسقفها من الخشب والجريد وهذه تسمى ( الحوش ) أي المطبخ والذي يعد فيه طعام الأسرة ، بجانب الحوش ( المطبخ ) مظلة صغيرة طولها متران وعرضها متر ونصف وسقفها من الجريد والخشب ، وفي داخل المظلة ما يشبه الطاولة ( الصفيف ) ، طولها متران وعرضها متر تتكون من : جريد النخل المجرد من الخوص ، وقد صف بشكل طولي ، ووضع من تحته عوارض من خشب الأثل موزعة بشكل متساو ، وربط في نهاية كل خشبة حبل لربـط الجريد وتثبيـته بهذه الطاولـة أو ( الصفيف ) المخصصة لوضع ماء الأسرة عليه : شرابهم ، وغسيلهم وكل ما يحتاجون إليه . وتتكون أوعية الماء من القرب ( نوع من الجلد المهيأ لذلك ) ، وتحتاج الأسرة ما بين قربتين وثلاث قرب يوميا . أما ركن الفناء الآخر فهناك مكانان خصص أحدهما للغنم وهو مكون من عريشة بسيطة وباب من الجريد ، وبجانبها أكوام الحطب ، أما المكان الثاني فقد خصص لوسيلة الانتقال والسفر الوحيدة ( الحمار ) وتسميه الأسرة ( جامح ) . وقد غرس في هذا المكان خشبة من الأثل بارتفاع متر ، ووضع في أسفلها حبل بطول مترين ينتهي بحلقة وغونة لربط الحمار .بعد أن رأينا البيت في صورته الكاملة نعود لنبحث عن ساكنيه والقابعين بداخله في هذه الليلة الكئيبة ؟ إنها أسرة صغيرة : فاطمة وطفلاها حسن خمس سنوات وحامد ثلاث سنوات ، ورب الأسرة عبد الله الذي كان غائبا في تلك الليلة الموحشة، فقد راحت الأوهام والهواجس تنهب أنفاس فاطمة. فقد تخلف عبد الله ( زوجها ) عن العودة إلى البيت عند حلول المساء كعادته . وهذا هو الأذان الأول ( السحر ) يرفعه المطوع ( مفلح ) مؤذن المسجد ... وفاطمة لم تنم بعد وأنى لها أن تنام ؟! وكانت بين كل لحظة وأخرى تغادر المصباح الذي تنام به مع أطفالها ، وتقف خلف الباب لعلها تسمع وقع خطواته أو صوته قادما ، وعندما يحل بها اليأس تعود إلى طفليها النائمين وتقبل كل منهما وتلقي عليه ما تكشف من لحافه . وعلى غير عادة استيقظ حسن وراح ينادي : يماه ... يماه ... أريد ماء .. أريد أن أشرب . وعلى ضوء الفانوس الخافت تطلع حسن إلى حيث ينام والده عادة ، وسأل أمه أين أبوي يا يماه ؟ وترددت أمه بعض الشيء في الإجابة ، فهي لا تريد أن تفزع الطفل الصغير أو تروعه لغياب والده ، وتريد أن تعطيه إجابة مقنعة ... قالت : يا بني ، إن أباك قد ذهب يصلي الفجر في المسجد ، وسيعود – إن شاء الله – بعد قليل . وكانت هذه الإجابة كافية فقد تعود أن يذهب مع أبيه إلى المسجد في بعض الأوقات وعاد الطفل إلى مضجعه .لكن فاطمة بدأ القلق يهز كيانها ..لا تستطيع أن تفعل شيئا في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، إذ ليس باستطاعتها الخروج من البيت قبل أن يطلع الصباح – كسلوك القرية – وحتى جارهم خلف ( أبو راشد ) بالرغم من معرفته وصداقته الوثيقة لعبد الله والذي لا تفكر فاطمة بالذهاب إلى غيره عند الملمات ، لم تجرؤ أن تذهب إليه قبل حلول الصباح ... ومرت ساعات طويلة من الهواجس التي تستهلك أعصابها وتحملها ما لا تستطيع تحمله . وراحت تجوب أنحاء البيت ووقفت على كل زاوية منه . مرت على مظلة الغنم وعلى زاوية ربط الحمار وعلى أكوام الحطب ... حتى "صفيف القرب" ذهبت تتفقده ، وكان ذلك كله محاولة منها لنزع ذلك الكابوس الذي يجثم على أنفاسها ، ولكن كل ذلك لم ينجح في تخفيف شيء من قلقها . وبعد أن تفقدت أنحاء البيت للمرة الثانية أو الثالثة ... دخلت إلى ( المصباح ) ، وحاولت أن تنام لكن الهواجس راحت تلح على ذهنها ، وتضغط على أنفاسها ، وسيل من الأوهام يجوب خاطرها ، وراحت تسأل ترى أين عبد الله ؟ ما الذي حدث له ؟ هل أصابه مكروه عند عودته في جنح الظلام ؟ إن القرية التي ذهب إليها غير بعيدة إنها على بعد ساعة والحمار ( جامح ) نشيط وسريع ، والعمل الذي ذهب إليه ليس كثيرا أو صعبا ( محاله ) دولاب من الخشب …. و( دراجة )اسطوانة من الخشب . هذا ما قاله عميله ( سحمي ) حين جاء يطلب عبد الله لإصلاح هذا الخلل … وراحت فاطمة تهون على خاطرها لعل أحد عملاء عبد الله الآخرين قد طلب منه إصلاح خراب عنده أو ربما أن سحمي ألح عليه لتناول طعام العشاء ،ثم حل الليل واقتنع عبد الله بأن يبيت ولا يسير في طريق العودة المظلم والشديد البرودة وخطر الوحوش والسباع ! ومضت فاطمة تحلل ، وتفترض ، وتضع الأسباب ، ورغم ذلك ، فهي لم تقتنع ، أو تصدق كل تلك الأسباب التي استعرضها ذهنها . ولم يخرجها من دوامة تفكيرها إلا صوت أذان الفجر فقد تنبهت إليه وكأنه جاء لإنقاذها من طاحونة القلق التي تكاد تمزق أحشاءها . ونهضت لتستعد لصلاة الفجر فخرجت للساحة ، وتناولت شيئا من الماء لتتوضأ وأقامت الصلاة … وراحت تتلو شيئا من القرآن الكريم وبعض الأذكار والأدعية التي حفظتها عن عبد الله ( زوجها ) ، ومضت في تكرار الذكر والاستعاذة من الشيطان ، فلعله يمنع عنها تلك الهواجس والأفكار المقلقة أثناء صلاتها . بعد انتهائها من الصلاة شعرت بأن هناك حركة ما عند الباب الخارجي وبدأت تتنصت وترهف السمع … فهي لم تعد تثق في جوارحها من كثرة الإجهاد، ولكن الصوت بدا يتضح ، وعندما تأكد لها ذلك سمعت صوتا عاليا يرتفع من وراء الباب وكان هذا الصوت نهيق الحمار ( جامح ) وقفزت فاطمة قفزة آلية لم تألفها … قفزت نحو الباب وهي منتشية تردد الحمد لله … الحمد لله … لقد عاد عبد الله … لقد عاد عبد الله . وقبل أن تمسك بمزلاج الباب راحت تردد سؤالا عتابيا شفوقا : لماذا تأخرت يا عبد الله ؟ لماذا ؟ .. ولم تمسك نفسها عن الإجهاش بالبكاء ، ثم حاولت أن تكفكف دموعها ، حتى لا تزعج زوجها ، وفتحت الباب على مصراعيه ، ثم فوجئت بجامح يقف عليه وحده وليس عليه راكب . لم تكن فاطمة قد تعودت أن يمازحها زوجها عبد الله بهذا الشكل ، أي أن يرسل الحمار ويختبئ في مكان آخر . وراحت تتلفت يمنة ويسرة حول الباب وهي تنادي : عبد الله ، أين أنت يا عبد الله ؟ في حين اغتنم الحمار انشغال فاطمة ودخل مسرعا إلى مكانه المفضل ، ولم تسمع فاطمة أي حركة أو إجابة على ندائها ، وراحت بجزع تكرر النداء ، عبد الله ! عبد الله ! لا تزد علي أنا مرهقة الأعصاب ! إلا أنه لا أحد يرد . وتجرأت بالخروج ، وراحت تطل في كل الأزقة المجاورة ، لكنها لم تجد أحدا ، وفجأة وبدون شعور منها صرخت صرخة عالية ، وأتبعتها بصرختين خافتتين .وكان خلف ( جار عبد الله ) على بعد خطوات منها بعد عودته من صلاة الفجر ، وقد أفزعه سماع الصرخات عن بعد ، ولم يكن يدري من أين جاءت تلك الصرخات ؟ وقد حث الخطا ، حتى قارب بيت جاره عبد الله ، ووجد الباب مشرعا وأم حسن ملقاة على الأرض شبه مغمى عليها ، وأخذته الحيرة والارتباك ، وراح يردد : خير … خير يا أم حسن ! ما الذي حدث ؟ خير إن شاء الله ! لكن أم حسن لم تكن في حالة تمكنها من الرد على خلف . ومرة أخرى أصابته الحيرة ، فهو لا يستطيع أن يمس المرأة ، إذ أنها ليست من محارمه ، وهو رجل متدين وأمين ، وأم حسن كذلك امرأة عفيفة ، ولم يدر ماذا يفعل ، ولكنه استدرك أخيرا وراح يركض إلى بيته رافعا صوته : أم راشد .. أم راشد ..( وهي زوجته ) تعالي … تعالي شوفي أم حسن ، وجاءت أم راشد ومعها أم سالم ( الجارة الثانية ) وراحتا تساعدانها وتغسلان وجهها بالماء البارد ، وأحضرتا شيئا من المساحيق الشعبية التي تستعمل في مثل هذه الحالة . وبعد أن عادت أم حسن للوعي راحت تبكي بحرقة وتتمتم عبد الله ، عبد الله ، أين أنت يا أبا حسن ؟وكان أبو راشد يقف غير بعيد ، ولم يدرك ماذا حدث ، فقد شاهد جاره عبد الله بالأمس وهو يركب حماره ، متجها إلى عالية الوادي ، ولا يدري ماذا حدث بعد ذلك ، وراحت أم راشد تهون على أم حسن وتناشدها بأن تفصح عما بها ، وماذا حدث ، ورفعت أم حسن رأسها من فوق كتف أم راشد ، التي كانت تضمها إليها ، قالت وهي تغالب العبرات ، جامح … جامح، ودهشت أم راشد كيف إن أم حسن تهذي باسم حمار زوجها ، وزاد التوتر لدى أم راشد وخشيت أن تكون أم حسن قد أصيبت بلوثة ، لكنها حاولت أن تعرف وقالت : ما له جامح ؟ ماذا به ؟ قالت أم حسن ، وهي ترتجف وترتعد : عاد …عاد جامح لوحده دون عبد الله ، وهذا يعني انه قد حدث له مكروه وعادت تبكي وتتحرق جزعا .وبعد أن سمع أبو راشد ما قالته أم حسن ، ساوره القلق واستولى عليه الهم ، وفكر أول ما فكر ، بأولاد عبد الله الصغار ، كيف سيكون حالهم إذا كان قد حدث لعبد الله مكروه ؟ .. فقد كان أبو راشد صديقا حميما لعبد الله ، وجار ، بل أكثر من جار ، وراح يفكر كيف يستطيع تدبير أمور عائلة صديقه إن صح غيابه الأبدي ؟ ولم ينتبه من تفكيره إلا على صوت أم راشد وهي تصيح به : أبو راشد ، أبو راشد ، اذهب .. اذهب حالا وابحث عن عبد الله . تتبع خطوات الحمار خطوة خطوة ( وأهل القرية لهم خبرة في معرفة وتتبع الأثر .ولندع أبا راشد يتتبع الأثر ونذهب إلى عبد الله ومضيفه ( سحمي ) نشأ عبد الله في حجر والده حسن ، وتعلم مهنته نجارة الخشب ( أبواب وغيرها مثل أدوات السواني – محال – أدراج ) وكانت مهنته رائجة ، وتدر عليه دخلا لا بأس به ، يزيد عن الكفاف وقد لا يخلو الأمر من الادخار ، فعبد الله غالبا يتعامل مع أصحاب مزارع النخيل ، وعلى قدر معين من التمر كل سنة مقابل إصلاح ما يجب إصلاحه ، من أدوات السواني ، إلى جانب ما يمكن عمله لسائر السكان مثل أنصبة السكاكين ، والمحاش والفؤوس و المحاريث . كان عبد الله قد ضرب موعدا لأحد المتعاملين معه ( سحمي بن مسفر ) الذي تقع مزرعته في أعالي الوادي وما أن صلى عبد الله الفجر ، شرب القهوة مع زوجته فاطمة ، حتى قرب وسيلته السريعة ( الحمار جامح ) ووضع عليه الحلس ، ثم الخرج الذي يضم أدواته : القدوم والمنشار والمطرقة والثقاب ذو البريمة الخشبية ورأس فولاذي وبعض المسامير ، ثم ودع أم حسن ، وقال لها سأعود إن شاء الله بعد العصر .وصل أبو حسن إلى مزرعة سحمي ، ووجده بانتظاره وأخذ سحمي بزمام الحمار وأودعه حوش الحيوانات بالمزرعة ، ثم أنزل عنه معدات عبد الله ، كانت مزرعة سحمي تتكون من عدة مئات من شجار النخيل – إلى جانب مساحة جانبية خصصت لزراعة القمح الذي يكفي لمؤنة عام ، وزراعة البرسيم لإطعام المواشي ، يسقي سحمي مزرعته من بئر ، عمقه خمسة أمتار ، ولها فتحة نصف قطرها متران ، وقد رصت جوانبها بالحجارة المركبة والمنسقة مع بعضها وبدون مؤنة . يرفع الماء بواسطة ثلاث سواني ( ابل ) وقد خصص لكل سانية معدات تخصه " ( محالة ) و ( درجة ) وتوابعها وقد ضمت الثلاث في شكل متكامل ومترابط ، وقد ربط على ظهر كل سانية ( ناقة ) جهاز يدعى ( الكتب ) ، وربط حبلا أحدهما يعتلي المحالة في الجزء الأعلى ، وهو من الليف ، والآخر يمر فوق الدراجة في الأسفل وهو من قديد الجلود ـ وقد ربط في نهاية الحبلين دلو يدعى ( غرب ) مصنوع من جلد الإبل ، وتقوم السواني الثلاث مجتمعة ، وكل منها يجر الدلو المربوط عليه ، ثم تصب الماء في مكان مهيأ يدعى ( القف ) ومنه ينساب الماء إلى ( الجابية ) التي يتجمع بها ، وهي حوض له فتحات ، تقفل ، وتفتح عندما يمتلئ الحوض يطلق الماء لسقي كافة المزروعات . وكان سحمي قد تعاقد مع عبد الله بأن يدفع له ثلاثين صاع تمر سنويا ، مقابل إصلاح كل خلل يحدث في ( الزهاب ) وهو اسم يجمع كل المعدات والأدوات الخاصة بالسقي ، الصاع ( 4 كيلو ) ، قام عبد الله بإصلاح الخلل ، ثم تناول الغداء على مائدة سحمي ، وحين استعد عبد الله للعودة ، جاء أحد عملاء عبد الله ، المزارع سيف ، وطلب منه الذهاب معه إلى مزرعته المجاورة ، لإصلاح بعض الخلل ، واستجاب عبد الله ، وبعد الانتهاء أقسم سيف ألا يذهب حتى يتناول طعام العشاء ، ولم يرد عبد الله أن يغضب سيف لاسيما وقد أقسم ، وجلس عبد الله ليتناول العشاء وذلك بعد حلول الليل ، ثم قام يستعد للعودة لكن سيف ومعه سحمي راحا يلحان عليه بأن لا يذهب في هذا الليل المظلم والريح الشديدة والهواء البارد ، وكذلك أخطار الطريق ، ومن السباع والوحوش ، فما كان من عبد الله إلا أن ينزل عند رأيهما مع أن خاطره مشغول ، وباله غير مرتاح ، فهو قد تعود ألا يبيت إلا في بيته وبجانب عائلته . هيأ له سحمي الفراش ، لكن النوم لم يراود عينيه وراحت الهواجس تداهم خياله " ماذا سيحل بأم حسن حين يأتي المساء ، وأنا غائب عنهم ؟ ولم ينقذ عبد الله من هواجسه سوى أذان الفجر ، وقام ليؤدي الصلاة مع مضيفه ، وأوقد سحمي النار ليصنع القهوة ، وكان عبد الله يتحرق للمسير لكن سحمي أصر على أن يتناول القهوة ولتمر .

بعد ذلك خرج الاثنـين متوجهين إلى حوش المواشي ليخرجـا الحمـار ( جامح ) ولشدة المفاجأة لم يجداه ، وراحا يبحثان عنه في أطراف المزرعة ، ولكنهما لم يجداه ، وقد تتبعا أثره ، ووجدا أنه قد توجه ( للروضة ) المكان الذي يوجد به منزل عبد الله ، كان ( جامح ) قد تعود ألا يبيت إلا في مكانه المخصص له في بيت عبد الله ، لذا فإنه عند حلول المساء راح جامح يحاول فك رباطه ، الذي لم يكن وثيقا ، ونجح في ذل ، ثم خرج وراح يطوف أنحاء المزرعة حتى وجد مخرجا ، ثم توجه إلى الطريق الذي تعود عليه . ذهب إلى المنزل دون راكبه عبد الله .
أما أبو راشد فقد تركناه وهو يحث الخطا ، ويتتبع آثار الحمار ( جامح ) لكنه بعد فترة ، فقد الأثر بعد أن أخفته آثار أغنام ، وإبل مرت عليه ، وراح يتلفت يمنة ويسرة بعد فقدان الأثر ، وحين لم يجد لعبد الله أثرا واصل السير إلى عالية الوادي ، إلى مزرعة سحمي ، التي يعرفها جيدا ، وما كاد يتبين المزرعة حتى شاهد رجلين وبينهما حمار يحملان عليه بعض الأثاث ، وعند اقترابه منهما شاهده عبد الله وتعرف عليه ، ثم خب يجري ويقفز فزعا ، حتى التقى بأبي راشد ، وراح يصيح بأعلى صوته خير يا خلف ، خير يا أبو راشد " عسى ما صاب العيال شيء ؟ " تنفس أبو راشد الصعداء ، واغرورقت عيناه بدموع الفرح ، ورد على عبد الله قائلا : خير ، خير يا أبو حسن ، لقد خفنا عليك ، وداخلنا رعب على سلامتك ، بعد أن جاء ( جامح ) دون أن تكون معه ، ولقد شغلت عائلتك كثيرا ، وتأثر الجميع حين جاء الحمار وحده ، والتفت عبد الله إلى سحمي وقال : أرأيت ماذا حدث لأهلنا وجيراننا ؟ وعاد عبد الله إلى بيته وذهب الكدر والهم .

أبو راشد ( خلف بن علي ) جار عبد الله وصديقه والذي تربط بينهما علاقات أخوية متينة يعمل في البناء ، معلم بناء وأحواله المادية متوسطة ، فهو يعمل أسبوعا ، ويجلس عاطلا أسبوعين يحصل على أجره اليومي ريالا واحدا – والريال له قيمة ومكانة في حينه – فهو يكفي العائلة لمدة عشرة أيام . له من الأولاد راشد ثاني سنوات وسارة ست سنوات ، وعلي ثلاث سنوات ، وزوجته أم راشد ( منيرة ) . أبو راشد ذلك الرجل الوفي الذي ارتاع وفجع حين ظن أن مكروها قد أصاب جاره وصديقه عبد الله ، أبو راشد هذا قد هيأ له القدر أمرا ، وأي أمر ؟! فقد دعاه أحد المواطنين للبناء في داره ، وقد استمر في هذا العمل مدة عشرة أيام مما أدخل المسرة على نفسه وعلى أسرته ، لأنه قد زاد من دخل الأسرة عشرة ريالات – مبلغ جيد – ومضى خلف في عمله ، وعند نهاية جدران إحدى الغرف ، راح خلف يضع أخشاب السقف المكونة من خشب الأثل ، ووقف على أحد الجدران وأمامه عامل آخر يوازن معه الخشب وقام المعلم خشب بتحريك إحدى الخشبات ، متكئا عليها برجله ، غير أن الخشبة انقلبت فأخذت المعلم معها ، وسقط من علو ثلاثة أمتار ، وراح يتألم . لم يحدث به كسور ، فقط هناك الم داخلي غير معروف ، لم يكن هناك مستشفيات ، ولا أطباء ، لكن هناك مفلح المؤذن ، هو طبيب القرية ، ولديه وصفات لكل مرض منها الأعشاب و ( المسود ) و ( الملة ) والكي وقد باشر مفلح علاج خلف واستعمل مفلح كل ما لديه ، وبذل كل ما يستطيع من فنون العلاج ، ولكن كل ذلك لم يكن مجديا ، وقد حكم القدر ، ولا راد لحكمه ، وتوفي خلف إلى رحمة الله .

وقد حزن عبد الله وتألم كثيرا لما حدث لرفيقه وصديق عمره خلف ، وزاد من حزنه التركة الثقيلة التي تركها خلف وراءه من زوجة وأبناء ليس لهم معيل أو أقارب لأنهما لم يكونا أصلا من القرية وإنما وفدا إليها قبل عشر سنوات ، ولم يكن خلف من الأغنياء أو ذوي اليسر إذ لم يترك إلا عشرين ريالا فقط وخمسا من الغنم ، وحمارا وبيتا متواضعا ، كان على عبد الله أن يتحمل مسئولية عائلة خلف ، خلف الذي كان يستعد ليتحمل مسؤولية عائلة عبد الله ، حين ظنوا أنه قد هلك ، وهكذا تنتقل المروءة والشهامة والأخلاق بين الرجلين الطيبين . ذهب عبد الله يعزي أم راشد ، ويعدها بأنه لن يتخلى عنهم ، وستكون هي وأولادها مثل زوجته وأولاده ، ومضى عبد الله يكد ويعمل ، ويعطي جارته وأولادها مثل ما يعطي عائلته ، لكن عبد الله كان في كثير من الأحيان يحس بالحرج ، حين يأتي بحاجة جارته ، يحس بالحرج من الدخول إلى بيتها ، فهي أولا : في الحداد ، وثانيا غير محرم له ، وأولادها صغار ، وحتى بعد أن انتهت من الحداد ، فإنه ما زال يتردد في الدخول عليها ، ولأن عبد الله وفي كريم ، فأن فاطمة كانت أكثر وفاء وأكثر كرما ، وما كان منها إلا أن فاجأت عبد الله بفكرة دهش لها ولم يصدق ما يسمع بأذنيه ، قالت فاطمة لزوجها : إنك بكرمك ووفائك ، قد التزمت بتحمل مسؤولية عائلة جارك ، وصديقك أبو راشد ، وأنا مؤيدة لك وواقفة إلى جانبك ، وأم راشد ( منيرة ) قريبة إلى قلبي كأنها أختي ، لذا فإنني أعرض عليك أمرا أرجو أن تأخذه بجدية وتعمل على تنفيذه ، قال عبد الله : أشكرك على نبل موقفك من جارتك وأبنائها ، ولكن ما هو الأمر الجدي الذي تشيرين إليه ؟ قالت فاطمة : إنني أود بكل جدية أن تتزوج منيرة ؟ وأنا راضية ومقتنعة ، وإن لك أجرا حين تطعمها وتسترها ، ما دمت قد التزمت بالعناية بها والرعاية بأولادها ، وأصيب عبد الله بدهشة ، وأربكته المفاجأة ، ولم يستطع أن يرد بما يجب وتلعثم ، وعندما استعاد القدرة على الكلام ، قال يا فاطمة : إنك امرأة عظيمة ! إنك مؤمنة ! إنك صالحة ! إنك .... إنك.. ، لم يترك صفة من الصفات الطيبة إلا نعتها بها وقال يا فاطمة : إنك عندي أغلى شيء ، وأنا لا أريد الإساءة إليك – وإن المرأة بطبيعتها وبتركيبتها لا ترضى بالمشاركة في زوجها - ، وردت فاطمة : يا عبد الله ، لقد ربيتني على القيم والصبر والاحتمال والتضحية والإيثار ، وإن عندي يقين بأنك ستعاملني وتعاملها بما يرضينا . وأسند عبد الله رأسه على كفه ، وسرح في تفكير عميق ، وراح يردد في خاطره هل أنا في حلم ؟ هل يصدق أحد أن امرأة تدعو زوجها لأن يتزوج امرأة أخرى تشاركها في زوجها ؟! لقد فكر عبد الله في أمر كهذا كحل للإحراج الذي يشعر به ، خلال التعامل مع جارته ، لكنه استبعد الزواج حيث ظن أنه سيسيء إلى زوجته التي يحبها ، لكن هاهي زوجته المحبوبة قد فاجأته وأنقذته من الحيرة . وحين لاحظت فاطمة استغراقه في السرحان ، أرادت أن تعيده إلى الواقع . قالت عبد الله : ماذا بك ؟ إنني جادة فيما قلت ، وسوف أعرض عليها ذلك ، فهل أنت موافق ؟ طال سكوت عبد الله واستحثته فاطمة : عبد الله تكلم ماذا تقول ؟ وأخيرا تكلم عبد الله وقال : يا فاطمة ، يا أعز الناس ، تصرفي واعملي ما ترينه مناسبا ، وفيه خير لنا ولأسرة صديقنا أبي راشد رحمه الله .
ومثلما فوجئ عبد الله ، فوجئت منيرة حين عرضت عليها الفكرة ، أهذا معقول ؟! قالت منيرة : تخطبين لزوجك ؟! وردت فاطمة : نعم أخطب له امرأة أحس أنها مثل أختي ، وإنها أقرب الناس إلي، وأضافت : تعلمين أن عبد الله – وأنا أيضا – ملتزمان بكم وبمصيركم ، وما دام الأمر كذلك فإنه لابد من إزالة الحواجز والعقبات ، من طريق الألفة بيننا ، إنني راضية وقابلة . ويتم زواج عبد الله من منيرة ، وكانت فاطمة تحسن صناعة نسيج من سيور الجلد الممزوج بخيوط الحرير ويدعى ( الميركة ) وهي زينة تزين بها الهجن الأصايل ، وهي رائجة حين ذاك واندمجت الأسرتان .
وسارت حالتهما على ما يرام ، وراح عبد الله يكدح ويعمل ، ويعامل أبناء أبي راشد وكأنهم أولاده ، بل أحيانا يميزهم على أولاده . أما فاطمة فقد دربت منيرة على عمل ( الميارك ) والتي زادت من دخل الأسرتين ، وكبر حسن وراشد ، وانضما إلى الجيش السعودي وتدرجا حتى صارا ضابطين كبيرين وتخطت الأسرتان المصاعب وعاشتا في أمان واستقرار.
سعد ابوحيمد غير متواجد حالياً  
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
موسوعة تفسير الأحلام _ فسر حلمك بنفسك صقر آل عابس مجلس الإسلام والحياة 22 23-02-2009 12:02 AM
الاخطبوط الشيعي في العالم؟؟ ادخل ولن تندم ابومحمدالقحطاني فضائح وجرائم الروافض ضد أهل السنة 20 26-10-2008 08:14 PM
ابرز الاحداث والنشاطات لعام 2007 م سعيد مسعود العماني المجلس الـــــعــــــــام 5 29-12-2007 10:14 PM
نهاية صدام ملف شامل محمد القويفل المجلس الـــــعــــــــام 17 02-10-2007 05:43 AM
مناسك الحج و العمرة اللبيب مجلس الإسلام والحياة 6 28-04-2007 02:39 PM


الساعة الآن 04:53 PM

سناب المشاهير