إبراهيم طالع الألمعي
بروقٌ يمانيَّة (لِصٌّ في منزلِ شاعر)
الشِّعْرُ في جزيرة العرب هواءٌ ما لبثَ أن استنشقه الاستعرابُ ثمَّ علا به علوَّ من حملوه وكوَّنوا به ومعه حضارةً طبعتْ على قلب المعمورة غنائيةً احتسبها كثير من أهل الفكر الحديث ضمن عوامل التعطيل تجاه التقدم العلمي – مع النحو واللغويات والدينيات وعلوم الكلام..إلخ - وهذا ظلم في الأحكام. إذ لم ولن تزال البشرية تؤمن أن اللفظية وما تحمله من قدرة على التصور هي أسٌّ لكل العلميات التي توازيها عبر التقدم الإنساني في مجال العلم وأوجه الحياة. وقد وازى هذه النظرة التي حملها الاستعراب – كما أوصلها الاسشراق – ضمورٌ يشبه انبهار الضعيف بالقوي (وهو في حقيقته: وداعة المستقر أمام المتحرك عبر تاريخ الهجرات العربية بالفتح والسياسة والريادة الدينية خارج الجزيرة). ومن هنا كان ما نراه من قصور في استكناه الشعر العربي في جزيرة العرب عموما، واقتصر الاهتمام على ما ساير الخلفاء والساسة عبر العواصم المستعربة بالفتوحات، وبقي المستقر العربي في جزيرته بعيدا عن الضوء الذي لقيه المهاجر. وسأحاولُ عبر ما يمكنني هنا أن أمثِّلَ من اليمن بضوء من أحد بروقه اللامعة، (الأعمى البصير حدَّ الإعجاز: عبد الله البردوني ( 1929 – 1999 ).
يقول بصيرُ بردُّون في إحدى قصائده:
هدني السجن وأدمى القيد ساقي فتعاييت بجرحي ووثاقي
وأضعتُ الخطو في شوك الدجى والعمى والقيد والجرح وثاقي
ومللت الجرح حتى ملني جرحيَ الدامي ومكثيْ وانطلاقي
في سبيل الفجر مالاقيت في رحلة التيه وما سوف ألاقي
ومن قصيدته (ذات يوم):
أفقنا على فجر يوم صبي فيا ضحوات المنى أَطْرِبي
وماذا؟ سؤال على حاجبيكِ تزنبق في همسك المُذهَبِ
وسرنا حشودا تطير الدروبُ بأفواج ميلادنا الأنجبِ
وشعبا يدوي هي المعجزات مهوديْ وسيفُ المُثنَّى أبي
غربتُ زمانا غروب النهار وعدت يقود الضحى موكبي
أضأنا المدى قبل أن تستشفَّ رؤى الفجر أخيلة الكوكبِ
فولى زمان كعِرض البغيِّ وأشرق عهد كقلب النبي
ومن أطرف الشعر قصيدته (لص في منزل شاعر) لك أن تتخيل الأعمى يتابع بسمعه حركات اللص:
شكرا دخلتَ بلا إثارةٍ وبلا طفور أو غرارهْ
لما أغرت خنقت في رجليك ضوضاءَ الإغارهْ
لم تسلب الطين السكون ولم ترِِعْ نوم الحجاره
كالطيف جيتَ بلا خطى وبلا صدى وبلا إشاره
أرأيت هذا البيت قزما لا يكلفك المهاره؟
فأتيته ترجو الغنائم وهْوَ أعرى من مغاره
ماذا وجدت سوى الفراغ وهرةً تشتمّ فاره
ولهاث صعلوك الحروف يصوغ من دمه العباره
يطفي التوقد باللظى ينسى المرارة بالمراره
لم يبق في كوب الأسى شيئا، حساه إلى القراره
ماذا؟ أتلقى عند صعلوك البيوت غنى الإماره؟
يالصُّ عفوا إن رجعتَ بدون ربح أو خساره
لم تلق إلا خيبة ونسيت صندوق السيجاره
شكرا أتنوي أن تشرفنا بتكرار الزياره؟
ومن أخرى:
أنا شاعر يا ابنة العم لي من الحب نبع شهيٌّ غزيرْ
وشعر رقيق كحلم الصباح على مقل الياسمين المطير
فحسبي وحسبك ديوانُ شعرٍ وبيتٌ صغيرٌ وحبٌّ كبيرْ
وعندما نسي أن يموت قال:
تمتصُّني أمواج هذا الليل في شَرَهٍ صَموتْ
وتعيد ما بدأتْ وتنوي أن تفوتَ، ولا تفوتْ
وتقول لي مُتْ أيها الذاوي فأنسى أن أموت
ولعيني موطنه قال:
لأنّي رضيع بيان وصرف أجوع لحرف وأقتات حرفْ
أعندي لعينيك ياموطني سوى الحرف أعطيه سكبا وغرف
أفصِّل للياء وجها بهيجا وللميم جيدا وللنون طرف
19-01-2009, 03:05 PM
بروقٌ يمانيَّة
تعليمات المشاركة
العرض المتطور