ملأ صراخي جميع أرجاء المنزل وهو يجرني من شعري بكل وحشية متنقلاً بي من غرفة لغرفة.. وكأنه يكتفي حين تمتلئ الغرفة بصراخي وبكائي فينتقل لغرفة أخرى... حين سحبني كالشاة لغرفة الطعام.. خارت قواي من شدة الألم فلم أستطع مقاومة صفعاته التي انهالت من كل جهة وبدأت أبكي وأصرخ بكل ما تبقى لي من قوة.. صرخت.. يكفي.. يكفي.. ولكن دون جدوى.. لم يكتف وكأنها جرعة محددة يعرف هو فقط معيارها ومتى يقرر أن يتوقف.. ولا يهم إن سال دمي .. المهم النشوة التي يشعر بها أثناء الضرب.
سقط نظري أثناءها على وجه جارتي الفضولية في المنزل المجاور التي كانت تطل من خلال النافذة المفتوحة على مصراعيها وتكشف بيتنا بكل وضوح كشاشة السينما.
كانت تنظر بكل فزع وعيناها تحملان كل معاني الخوف والرعب.. لم تتمالك هي الأخرى نفسها وكأنها تشاهد فيلماً مرعباً لا تستطيع منعه وبدأت تصرخ منادية زوجها (ديفيد.. ديفيد.. النجدة.. المرأة في المنزل المجاور تتعرض للاعتداء).
جاء زوجها ورأى نفس المنظر.. فصرخ في زوجي بغضب قائلاً: توقف.. توقف.. ثم اختفى.. كلها ثوان معدودة سمعت بعدها أصوات سيارات الشرطة تقترب.. وبعده كان هناك طرق عنيف على باب المنزل.. تسمر زوجي في مكانه قليلاً ثم ابتسم لي بكل وقاحة وكأنه كان يمزح معي منذ قليل.
فتح الباب متظاهراً بالاستغراب سائلاً:" ما الذي يحدث.. كيف أستطيع مساعدتكم" رد عليه الشرطي قائلاً:" ارفع يديك.. أنت رهن الاعتقال.. وأي كلمة تتفوه بها ممكن تؤخذ ضدك في المحكمة، أين زوجتك؟" سمعتهم ينادونني بـ"سيدتي إذا تستطيعين سماعي اخرجي في الحال" قال زوجي وقتها" زوجتي نائمة.. ولا يحق لكم التدخل في شؤون الآخرين.. ثم أنا الدكتور (سمير الفهيم) وستدفعون ثمن تدخلكم هذا"مسكين.. يفكر أن الزعاطة ممكن تمشي على القانون هنا.
غطيت شعري بوشاح وطللت عليه من خلف ظهره بعين بنفسجية وأنف أزرق ينزف دون أن أشعر.. لم أدرك مدى بشاعة منظري إلا بعد أن شهق الشرطي قائلاً:" يا إلهي فدفعوه على الفور نحو الحائط وكبلوه بالأصفاد وسحبوه لسيارة الشرطة كم أحببت هذا المنظر وكم أحببت جارتي الفضولية حين اتخذت قرار بلاغ الشرطة.. وكم أحببت زوجها ديفيد الذي شهد على الواقعة بكل شجاعة حين قال:" لقد رأيت هذا الرجل منقضا على تلك المرأة (كالغوريلا) وهو يدق رأسها في جدار غرفة الطعام تلك.. فطلبت من زوجتي أن تتصل بالشرطة والإسعاف حين رأيت الدماء تنزف من رأسها.. وطرقت بابهم لكي أدافع عنها ولكن لم يفتح".
يا الله.. لقد حاول ذلك الأجنبي أن يدافع عني وينتشلني من بين مخالب ذلك الغوريلا.. وهذا هو اللقب المناسب الذي ينطبق عليه، اقترب الشرطي مني بكل حنان وأدب مستفسراً:" سيدتي.. هل أنت بخير.. هل تستطيعين الرؤية بوضوح؟ وناولني كأس من الماء الذي كان ألذ شيء أتذوقه وقتها.. ما إن تناولته حتى شعرت بانعدام مفاجئ للجاذبية الأرضية، ظهر أمامي شخصان أمسكا بي وقاداني لسيارة الإسعاف.
شعرت بكرامتي وقتها تنبض عليّ بشدة. فتظاهرت أمامهم بأنني بخير وأستطيع أن أمشي دون الحاجة لذلك الكرسي المتحرك الذي أحضراه لنقلي.
كم أحببت كل ذلك الاهتمام والترتيب لدرجة أن فاضت عيناي بالدموع مجدداً توقف الضرب أخيراً وهناك من يحاول أن يخفف عني ويواسيني.. كان ذلك الغريب في بلاد الغربة أحن علي من زوجي وابن عمي وابن بلدي.
دخلت المستشفى واعتقد الجميع أنني ضحية حادث طريق.. فتعاطف الجميع بشكل ملحوظ حين عرفوا حقيقة الاعتداء الوحشي.. اقترب أحدهم يفحص عيني.. وهذا كان يخيط رأسي.. وهذه كانت تطهر الجرح الغائر في بطني .. وأخرى تضع محلولاً في وريدي.. كم أحببت كل هذا الاهتمام.. كم أحببت وجودي بين هؤلاء الناس.. شعرت بالأمان بين أيديهم وتذكرت كم كنت بعيدة عن أهلي وإخواني .. حينها شرعت ببكاء متواصل.. لا أدري ماذا أفعل فبكيت وبكيت حتى فقدت الشعور بنفسي.
في اليوم التالي استيقظت على صوت الطبيب الذي كان يعطي تعليماته ببقائي في المستشفى عدة أيام لاستكمال العلاج.. ولكن للأسف.. نعم للأسف خرجت ضد إرادة الطبيب .. لأنني كنت أعلم أن وجودي عدة أيام سيعرض زوجي للمحاكمة والسجن، وكعادة بنات الناس في بلدنا تنازلت وسحبت القضية، وتجاهلت نصيحة الشرطي حين قال:" اتركيه يدفع ثمن ما ارتكبه في حقك.. إن لم يعاقب على فعلته سيعاود الكرة"، شرحت له بأنه أبو أولادي وابن عمي وعاداتنا وتقاليدنا وسذاجتنا وهبالتنا والأشياء العقيمة التي أعادتنا لزمن الجاهلية.. تفلسفت قليلاً وابتسمت بأن كل شيء أصبح على ما يرام.. فقال الشرطي معقباً على كلامي "أنت امرأة شجاعة" لم أفهم مغزى تلك الكلمة إلا حين عاود الكرة.
عدت إلى أرض الوطن بجراح ما زالت تنزف وبقلب يعتصره الألم ممزوج بالخوف من المستقبل ومن مجتمع تعاقب فيه المرأة حتى لو كانت على حق.. وفي أول اختلاف بيننا بسبب فنجان شاي لم أوازن حرارته بشكل يمكنه لارتشافه بسهولة انهال علي ضرباً وبصقاً وسباً ولأنه يضرب في أرضه قال حين بدأت أبكي" شوفي مين يقدر الحين يخلصك مني".
هل من منقذ.. هل من عقاب.. هل من أحد يجيب؟
في الخارج دافع عني الجيران الأغراب وحمتني الشرطة وعالجتني.. وهنا تعذر له الجيران حين سمعوا صوت استغاثتي، لا ولامني أحدهم حين قال" خليه يكسر راسها.. صوتها طالع" وكأنني أشدو موالاً ولست أصرخ ألماً.. تعذر الجميع له وتركوني أنزف قهراً وليس دماً فقط.
في آخر حادثة اعتداء رآني أكبر أبنائي بعد تلك النظرة لم أستطع أن أتحمل يوماً آخر لقد نظر إلي بحزن شديد وكأنه هرم فجأة وقال لأول مرة لأبيه: يكفي يا أبي لقد كبرنا وأنت تضرب أمنا دون رحمة يكفي.. وأعطاه نظرة لا أستطيع نسيانها.. نظرة معناها نهاية علاقة أب بابنه نظرة مملوءة كرهاً وحقداً.. وعندما حاول أن يدفع أباه بعيداً عني انهال عليه ضرباً وأزاحه جانباً كالريشة وسحبني مجدداً من شعري لكي يكمل مشروع التخرج (كيف تشرح زوجتك).. وشرحني فعلا. بعد تلك الحادثة قررت رفع قضية طلاق من ذلك الوحش الذي رفض تطليقي وحبسني في ذمته أربعة وعشرين عاماً مع الأشغال الشاقة ومن يومها لم أر يوماً سعيداً كل الأيام أصبحت سوداء.. وبعضها لم يكن له حتى لون محدد.
رفع ذلك الرجل ضدي جميع أنواع القضايا ولفق لي العشرات من التهم التي كانت تأتيني للأسف من جميع أجهزة الدولة دون تحقيق أو تدقيق لمعرفة الهدف من كل هذه القضايا الكيدية أو حتى ربطها ببعض. استغل ذلك الرجل كل ثغرة موجودة في القانون استغلالاً سيئاً لتأخير القضية بكل الأساليب الملتوية مجنداً قوته على الكذب والغش والتزوير والحلف الزور لمجرد أن ينتصر في النهاية ولا يطلقني.
احتال كذباً على أحد القضاة حين لم يحضر الجلسة للمرة العاشرة بأنه سافر للخارج لكي يعالج والدته ويظهر أمامهم بأنه الابن البار بوالدته، وأبرز بطاقة صعود طائرة تشير إلى أنه كان متواجدا في إحدى مناطق المملكة. اكتشفت بعدها أن في المحاكم مسؤولين لا يقرأون اللغة الإنجليزية واكتفوا بإفادة ذلك الرجل لأنه طبيب محترم.. صدقوه ولم يصدقوني حين قلت إنه وحش في ضربه وسيئ المعشر وشككوا في كلامي لمجرد أنني امرأة.. لأن هذا بحد ذاته إعلان صريح باعتلاء العين على الحاجب.. أخذت قضيتي أكثر من 3 سنوات وإلى الآن لم تنته .. تتنقل من محكمة صغرى لمحكمة كبرى.. تتخللها بعض الفقرات الترفيهية من قضايا كانت تتعاقب من شرطة المنطقة الشمالية نزولا بجميع الأقسام إلى شرطة المنطقة الجنوبية ومن إمارة المنطقة إلى الجوازات ومن أحوال مدنية لحقوق مدنية ثم نعود للبرنامج الأساسي من جلسة لجلسة وفي كل مرة لا يصدق المسؤولون أن كل هذا لمجرد أنني طلبت حقي في الطلاق.
في إحدى المرات طلب أحد القضاة أن يخرج إخواني (حفظهم الله) من القاعة، في بادئ الأمر اعتقدت أنه يريد أن يسألني سؤالاً شخصياً ولكنني فجعت حين وبخني قائلاً:" لماذا لا ترجعين لزوجك؟ تريدين أن تمشي على كيفك.. إيش فيها إذا ضربك، معناها أنه يحبك من زينك عاد؟
من أعطى الحق للرجل في بلدي بإهانتي سواء كان زوجي أو غيره؟ هل تلك الإهانات والتعديات هي الأخرى من (باب سد الذرائع) من أعطى الحق لهؤلاء الرجال (المسؤولين) بأن يتخذوا قرار العودة إلى زوجي والعيش معه بالإكراه؟
من أعطى هؤلاء القوم الحق في اتخاذ قرار هو ملكي وحدي فقط؟
حين تزوجت كان قرار الموافقة لي وحدي وتوقيعي الأهم على الوثيقة، وحين طلبت الطلاق متضررة الجميع اعتقد أن له الحق في تحديد مصيري.
لماذا لم نستفد من الخبراء الأجانب في إيقاف العنف المنزلي؟ لماذا يعاقب أمثال ذلك الرجل في الغربة بالقانون الذي لا يعرف واسطة، ولا تتم معاقبتهم هنا؟ في وطني على أرض مهبط الوحي.. لماذا تجلس قضايا الطلاق والخلع في محاكمنا شهورا وسنين؟
من المسؤول عن حرقة القلب التي تمر بها كل واحدة في ظرفي ممن ليس لهن إخوة أو أهل يقفون بجانبهن من طول انتظار وصبر لقضايا ذهبت للمصيف للاستجمام؟
متى تستقر القضايا في محكمة واحدة بدلاً من الانتظار والركض وراءها بين صغرى وكبرى وعاجلة ومستعجلة ومتعرقلة؟ كلها مسميات والمعنى واحد.. ما زلت معلقة من قبل من سيصدرون القرار.. معلقة من اتخاذ أبسط حق من حقوقي كإنسانة في مجتمع يعاني من الازدواجية مدعياً المطالبة بحقوق الإنسان.
لا أريد هذا الرجل.. لا تعيدوني إليه.. لأنني سأختار الانتحار.. وإلى آخر يوم في حياتي سأظل أطالب بحقي وأصرخ (أنا لا أريد هذا الرجل).
مصدر القصة
تقبلوا تحياتي
ولي عودة
أبو زيد