
قصة:النوخذة القحطاني><العبارة المصرية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
في احد الأيام الماضية عدت من العمل إلى المنزل ، دائخ ، تعبان ، وارتميت على الفراش . وبينا أنا كذلك ، دخل ابني يخبرني بوجود سيارة داتسون "قرنبع" يظهر أنها من سيارات البدو ، محملة بحطب سمر متوقفة عند باب منزلنا و سائقها "شايب" يطرق الباب فأشرت إليه باستقبال الشايب في المجلس ريثما أرتدي ملابسي وأتجهز"لأن الدعوى فيها ذبيحة وسلوم وعلوم"..وماهي إلا برهة حتى تناهى صوته المتهدج داخل أرجاء المنزل:
الشايب: أع ع ع هـههههههه يأهل المحل
الولد:أقلط..أقلط..تفضل..تفضل وسلم على الولد
الشايب: وين ابوك يا غليم؟
الولد: أبوي نايم..
تناهت إلى مسمعي هكرة الضيف: ها ها ها ها ها ها ها صدق راعي القصيدة:
النوم خله لأم قرن طويلي***إللي رشوش مجدلاته يجي صاع
أقول وأنا جدك ..ما عاد به رجال ..اليوم!!الرجال راحوا ..نوم؟من يرقد في هذه الوقت..قلت في نفسي أكيد هذا"ابو طيره" أحد شيبان الجماعة لايكف عن مهايطته رغم تقدمه في السن.. وفعلاً لم يخب حدسي .دخلت المجلس ورحبت به وسلمت عليه فرد في الحال"من رحب قرى"قلت له :مرحبا بك ..والعشاء ذا الليل هنا فرفض بأنه لن يمالحنا(الممالحة : المؤاكلة-مختار الصحاح)إلا من زاد البيت .. فقلت له كرامة النفس هواها..وما ودنا نغثك بالأديان ..لما أرخى الليل سدوله ، وبعد صلاة العشاء أرسلت الولد إلى محل مندي قريب وجاب نصف تيس"لباني"مفطوم".
بعد وجبة العشاء كنا نتابع قناة الجزيرة ومذيعها يحلل غرق العبارة "المصرية سأم" وأنا اصب القهوة له مال إلي الشايب قائلاً:
وش يقول ذا الأحمر الاعطر في "تلف العيون"؟
رديت: يقول أن ركاب السفينة المصرية سلام ماتوا رحمهم الله وشريدتهم قليل..
ابو طيره:وسواقها وين راح ومعاونيه إللي معه؟
رديت:يقولون أن الركاب ابلغوا القبطان ومساعديه بوجود حريق في مكينة السفينة منذ لحظة إبحارهم غير أنهم سفهوهم وواصلوا الإبحار إلى مصر ويوم بدت السفينة تغطس نزل القبطان وربعه وركبوا قوارب الإنقاذ وأهملهم(تركهم: مختار الصحاح)وشردوا إلى جهة غير معلومة..كل أحد يقول ..نفسي..نفسي..وكتب الله لكثير منهم الغرق وان شاء الله هم شهداء؟
لفض الشايب في كفه فصمة تمرة ثم عدل من جلسته واستدار بكامل جسمه نحوي:
ما فيه شك!! الغريق شهيد..لكن ما تعلمني ليه السواق-الرخمة-ذا ينحاش ويخلي ربعه؟
رديت عليه: أكيد خايف من الموت!!
تنهد الشايب..قائلاً: والله إللي ما هو مثل وافي الجبعة وربعه ..الله يرحمهم..كانوا يسافرون مع بعض..شقوا..تعبوا..وشافوا العزاري..راحوا مديد(المدد : جماعة يأتون بالمؤن من مكان بعيد)يجلبون التمر من الأحساء..وكان بعضهم يتجه نحو البحر طلباً للرزق..وما تركوا شغلة إلا ومارسوها ..سألته : من هو وافي الجبعة، وما هي قصته ؟ قال : الدنيا كانت بسيطة ..واليوم الدنيا بخير والخير كثير ولا ينقص المومن إلى يحمد ربه ويقضي فرضه ويقضب أرضه.القصص ياولدي كثيرة اذكر منها قصة وافي الجبعة وربعه حصلت لهم في البحر..يقول وافي الجبعة-رحمه الله-في قصيدة له يوم جاهم العيد وهم بعيد عن أهاليهم، هنا بعيد صوب عمان وذيك الديار :
العيد عيدناه شرق وراء "داس"***وسط الغبيب وعند رجم طويلي
ما عيدوا بي عند مدقوق الالعاس***إللي يتنشد ما لقيتوا حليلي
انظر السهم يشير إلى جزيرة "داس" الإماراتية المذكورة في البيتين
فسألته: منهم ؟ رد: ناس ياولدي ما تعرفهم؟ ألحيت عليه لرواية القصة فنشط ذاكرته بعدد من الفناجين القهوة وهو ينفث قشر الهيل من فيه(فمه)وبدأ بسرد القصة:
وافي الجبعة ،وسالم التام ، وعبدالهادي"همشان" ، وسالم بن عفيفه رحمهم الله ومعهم ربع من أهالي نجد كلهم جحادر..يسافرون دائماً مديد إلى الأحساء يجلبون التمر إلا أنه في إحدى سفراتهم غيروا رأيهم فقد عزم وافي الجبعة وسالم التام ، وهمشان وسالم على الاسترزاق بالعمل بحراً مع نوخذه(كبير صيادي اللؤلؤ)لصيد لؤلؤ ..كان كل يتمنى أن يرزقه الله برزق لبيعه على الطووايش(جمع طواش: تاجر اللؤلؤ)ثم يشترون بثمنه تمر وزاد حال العودة إلى ديارهم..كان موسم صيد اللؤلؤ يمتد على ثلاثة أو أربعة أشهر. ويستطرد ابو طيره: كانوا يأخذون عدة الصيد معهم..من الفطام(مقبض يغلق الغواص به انفه)حتى السنبوك(السفينة)..كانوا يبحرون في عرض البحر لا يهابونه..فإما رحلة وصيد وفير من اللؤلؤ أو يعودون بلا صيد ولا فيد..كانوا يبحرون وفي قرارة أنفسهم بعدم عودتهم إلى أهاليهم أحياء لأن الأمر إما حياة أو موت..واردف ابو طيره بأن وافي الجبعة قص عليه تلك الحادثة -رحمه الله-قائلاً:
أبحرنا يوم من الأيام لصيد اللؤلؤ..ومعنا واحد "حضري"..والنوخذة قائد السفينة،واتجهنا إلى مغاصات اللؤلؤ في عرض البحر وعندما يحين دور أحدنا في الغطس ..يعلق في رقبته "الديين"--كيس يجمع فيه الغواص اللؤلؤ ، ثم يربط "الثقل"--حجر مربوط به حبل ، فيربطه إلى ساقه ثم يطمر في البحر فيجذب الحجر الغواص إلى القاع ويجمع الأصداف ..وأما السيوب--الركاب فيساعدون الغواص في الخروج من قاع البحر..وفي أحد الأيام ونحن في عرض البحر غطى الليل الدنيا بثوبه الأسود..وتخيل وضع الربع ياولدي..البحر تحتنا أسود والليل فوقنا اسود .. الدنيا كلها سوداء..غدراء(ليلة مظلمة:قاموس المحيط)كانت الأوضاع مستقرة وما هي إلا لحظات حتى هدأ البحر وسمعنا حفيف رياح قادمة..فلا ندري هل القادم صوبنا حوت أو عاصفة بحرية..بعدها اضطرب البحر وهاج وماج.. وعرفت أنها عاصفة بحرية لا محالة..اهتزت السفينة ونحن نميل مرة يمين ومرة شمال في حركة مستمرة فأخذت الأمواج تتلاطم وازداد عتو الرياح..وأدركنا الغرق..كنا نتشهد..بصوت واحد..وأنا لا زلت أذكر أنني كانت ممسك بساق واحد من الربع واعتزي:"خيال البلهاء وفيان..خيال البلهاء وفيان(البلهاء : اسم ناقة)
كنا مرتفعين على قمة موجة هائجة..أخذ ماء البحر يدخل في حلوقنا..ولم أعد أدرك ما حل بأخوياي إلا أنني اسمع أصواتهم يصيحون ويتشهدون ولازلت ممسك بواحد منهم..استمر الوضع هكذا وبعد هدوء العاصفة واستقرار الأوضاع كانت السفينة قد تحطمت وكانوا رفقائي على متنها على وشك الموت بعضهم لازال متمسك بخشبها ويستطرد وافي الجبعة رحمه الله..كسرت خشبتين وربطتهما إلى بعض وعملت "طوف" وحملتهم عليه واحداً واحداً إلا النوخذه رفض الركوب معنا..حوالت فيه إلا أنه رفض مرافقتنا..مأخوذ القوم..وكان الحضري معنا..وأخذت أسبح في البحر وأنا ممسك بالطوف وأدف بالربع لا ادري إلى أي وجهة نحن إليها ..الدنيا كلها بحر وظلام..المهم استمريت في السباحة وأنا ممسك بالخشبة ادفعها ..أصابني الإعياء وقد تواصل أنين الحضري..قائلاً:آآآه أنا بموت..آآآآه أنا بموت.أتركوني..أتركوني..ولحظة وانفلتت يديه من الطوف وغاب عنا إلى الأبد..
استمريت على هذا المنوال حتى انبلج نور الفجر ولما أمعنت النظر فإذا بنا على الشاطيء..يسوقنا الله إليه سوق..سبحان الذي انجانا..ولما اقتربنا ولامست رجلينا الأرض تمدد الربع كأنهم موتى...سالم التام ، وعبدالهادي"همشان" وسالم بن عفيفه..أخذت أسحب رجلي المثقلتين..وأنا مرة أقوم ومرة اطيح على الرمق الأخير إلى قرية فإذا هي القطيف كانت قريبة جداً منا ..فاستقبلتني امرأة كبيرة في السن ولما شاهدتني صاحت:" غريق..يبه..غريق..يبه" ثم عمدت المرأة إلى تمر ومرسته في ماء ثم أسقتني وراحت هي ورجالها وساعدوا أخوياي وأقمنا ذلك اليوم أو يومين في حالة إعياء وتعب شديد.أ .هـ
التفت إلى الشايب"ابوطيره" وكانت عيناه تهملان دمعاً فشديت من أزره قائلاً:"الله يرحم أموات المسلمين..الدور علينا.. اصبر الموت قريب"..رد الشايب والحسرة تقطع قلبه:
تكفى..يا ولد..لاتلومني..جال إذا تعنزت عليه عنزك..وجال لاتعنزت عليه هيال.. يابعد الفرق بعداه..تذكرت فعل وافي الجبعة مع أخوياه ..وفعل سواق السفينة المصرية.
وسلامتكم
-------------
أخوكم
الحادي