عرض مشاركة واحدة
قديم 29-10-2012, 01:16 AM
  #5
يحي البشري
عضو متميز
تاريخ التسجيل: Feb 2006
المشاركات: 757
يحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond reputeيحي البشري has a reputation beyond repute
افتراضي رد: تجارة الرقيق في اوائل القرن التاسع عشر في الحجاز

- دكة الرقيق؛ مؤسسة تجارة العبيد المكيّة:

ولما استفحل امر الدراويش المهديون واستولوا على الأقطار السودانية في مطلع 1885م، الغوا قرارات غوردن باشا واعادوا تجارة الرق الى افظع ما كانت عليه، فتدفق الى الحجاز، عبر عصابات سودانية محليّة، موجات ضخمة من الرقيق السوداني. وبات نشاط تهريب الرقيق من ميناء سواكن يجري في العلن، وعبر مجموعات ضخمة تتجاوز الألفيّ شخص مع كل حمولة بحرية. [12]

وكما ازدهرت تجارة الرقيق والجواري في الحجاز، ازدهر معها نشاط شراء الحجاج العبيد لاعتاقهم، واعادة حرياتهم اليهم. وغصت مدن الحجاز بالأرقاء العتقاء، بل ان مدينة كاملة في جوار المدينة المنورة، وهي خيبر، قد تألّفت حصراً من الارقاء السابقين.

وبرزت في مكة مؤسسة دكّة الرقيق، وكانت سوقاً للعبيد في اطراف سوق سويقة، على مقربة من باب الدريبة، يقوم عليها شيوخ التجارة، وملحقة بأحواش مفتوحة غير كبيرة يحبس فيها الرقيق في المساء.

وكانت مراسم البيع تجري بحضور شاهديّن، وتُسجّل في اوراق مجلوبة ومُصدقة من المحكمة الشرعية.

ويصف المستشرق الهولندي سنوك هوروخرنيه الذي مكث في مكة عام 1884م، أجواء ومناخات بيع العبيد والجواري في دكّة الرقيق.. “ازاء الجدار تقف الفتيات والنساء من الجواري على الدكّة، والكبار منهن لا يرتدين سوى حجاب خفيف، ويقف أمامهن على الأرضيّة الرقيق الذكور، وفي بهو القاعة يلعب مجموعة من العبيد الصبيّة. ويجلّس الدلالون على مركازهم ويتبادلون أطراف الحديث سوية او مع بضاعتهم من الرقيق”. [13]

فيما يصف طقوس الشراء.. “واذا اهتّم زبون بصبي أسود صغير، يقوم الدلاّل المخصص بمناداته، ويطلب منه الكشف للزبون عن شعره، واقدامه، وبقية أطرافه؛ ويجبّر الصبي على فتح فمه واستعراض لسانه واسنانه، فيما يقوم الدلّال باستعراض مواهبه للزبون المهتّم”. [14]

واذا جاء المشتري لابتياع جارية فحصها فحصاً دقيقاً من قمة رأسها الى أخمص قدميها كما تُفحص البهائم. فاذا تحقق من لباقتها ولياقتها سامها من البائع.

ويقوم المشترون عادة بعدة اختبارات للرقيق قبل اتمام عملية الشراء. فيسألونهم ان كانوا يتحدثون العربية، ويسألونهم بعض الأسئلة الشخصيّة.. ثم يقومون بالكشف عن علامات الاصابة بالجدري، ويبحثون في اجسادهم عن ختم “جدرّي خالص” تنويهاً عن تلقيحهم ضد الجدري – واللقاح كان يُمنح في الحجاز، مشفوعاً بشهادات اعتماد مختومة من مفتي الشافعيّة في مكة، ولكن قلّما كانت تمنح هذه الشهادات للعبيد.

واذا ظلّ في نفس الزبون قليل من الشك، فانه يصطحب العبد الذي ينوي شراؤه لفحصه عند طبيب مقابل عائد مادي، او يقوم بصلاة “الاستخارة”.. اما اذا كان يعمل بالرمل والندر، فهو يذهب لشيخ الرمل ليقرأ طالعه قبل اتمام صفقة الشراء. [15]

وأخيراً يسأل السيّد الجديد عبده: “هل انت راضٍ؟”.. ومن خلال الاجابة، حتى لو جاءت بالسلب، يدرك الرجال بفراستهم فرص نجاح العلاقة الجديدة من عدمها.

ووقف الضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين الذي زار مكة متخفياً في عام 1898م على اجواء دكّة الرقيق، ووصفها بالمحفل الرهيب.

يقول دولتشين: “وعندما زرت هذا السوق، كان هناك زهاء 80 شخصاً معظمهم شابات حبشيّات مع اثنتين او ثلاث منهم اطفال رضع، وجميعهن مزيّنات ومصفوفات فرقاً على دواوين طويلة؛ وكان هناك مقعدان يجلس عليهما كادحون راشدون من الزنوج، لابسون بعناية ومقصوصو الشعر.. يشرف على البيع تاجر عربي نشيط راح يمدح بصوت مدو مزايا بضاعته”. [16]

لقد خلص دولتشين الى ان ما رأه قد ترك في نفسه انطباعاً كئيباً ومُرهقاً جداً.

لكن المستشرق هوروخرونيّه، الاعتذاري للشرق وممارساته وأخلاقه، اعتبر ان الرحّالة الأوروبيين الذين يحكمون على تجارة العبيد في الحجاز باستعلاء وبفرض تام لقيّمهم انما يجافون الواقع ويغلّبون نظرتهم السطحية والمستعجلة للأمور. “وأسفاً فإن غالب المستشرقين ينقلون لنا ملاحظات سطحيّة عن ممارسات الرقيق في مكة”، يقول هوروخرونيه. [17]

ويرى هوروخرونيه انه لا يمكن ان يشتري احد في اسواق مكة اي عبد ذكر دون ارادته، لكن هذا الشرط يجري التسامح معه مع الرقيق الاناث والجواري. وان الرقيق اذا استشعر سوء المعاملة فانه يصرّ على بيعه حتى يرضخ مالكه، فيعيد تسليمه الى دكّة الرقيق. لكن ذلك كان يجري دون غطاء قانوني.

ويقول هوروخرونيه: “لا تبدو على الرقيق في البيوت اي علائم للحزن او السخط، وهم لا يسكبون دمعة واحدة على تقييد حرياتهم. لكنهم يبدأون في الاعتراض اذا ما تم اساءة معاملتهم حتى ينالون فرصة أخرى للبيع لمالك آخر”. [18]

واذا اخطأ العبد فان عقوبة الضرب على أسفل قدميه في انتظاره. يصف هوروخرونيّه ذلك المشهد كما شاهده في احد حارات جدة: “يضجع العبد على بطنه، ويرفع قدميه للسماء، فيما ينزل المالك او احد رجاله بعصا “الفَلَكَة” على اسفل قدميّه، فيما يصرخ العبد معلناً التوبة، وطالباً العفو بإسم الرسول” [19] .. لكن هوروخرونيه يعود ويستدرك ان هذه العقوبة هي نفسها التي يستخدمها أهالي الحجاز ازاء ابنائهم المشاغبين، نافياً اي شبهة تمييز.

ويخلص المستشرق هوروخرونيه الى تسامح المجتمع المكّي واحترامه للعبيد.. كون العديد من الجواري، انما يصبحن أمهات لمكيين، فيما يعقب العبيد الذكور أسيادهم في مهنهم ومكاناتهم الاجتماعية، بل ويحملون ألقابهم العائليّة. [20]

وهو يضرب مثلاً بأحد “كُباريّة” مكة، ممن ينحدر من عائلة أرستقراطية مكيّة عملت في الافتاء، في وصف المعاملة فائقة الاحسان التي يتعامل بها العبيد في الحجاز، فيشير الى تعامله شديد التهذيب حد التدليل لمرافقه المملوك، في احد الغدوات التي كان يحرص على لقائه فيها بشكل دوري ابّان مكوثه في مكة – واغلب الظن ان المقصود هو صديقه الحميم السيّد عبدالله الزواوي، مفتي الشافعية في مكة.

ويذهب هوروخرونيه، الذي كان يحكم على المظاهر بشكل نسبي، ان “عبيد” مكة هم في حقيقة الأمر الموازون للخدم والمساعدين الشخصيين في اوروبا “المتحضّرة”. ويكاد يُفرط في اعجابه بالتعامل الأفضل الذي يحظى به العبيد في بيوت مكة. فهو يعلن رفضه للأحكام القاسيّة التي يُصدرها بعض المستشرقين الاوروبيين في عجالة ضد ظاهرة العبيد في الشرق، معتبراً انها مؤسسة متجذرة اجتماعياً، ولها أصولها القرآنية، التي يصعب الغاءها بجرّة قلم، او بمطالب نزقة من الغربيين. [21]


احد العبيد الصبية، يرتدي الزي المكّي، يحمل مولوداً لأحد أثرياء مكة. تصوير المستشرق الهولندي سنوك هوروخرونيه

لكنه اعتبر ان اسوء الممارسات البغيضة التي تترافق مع تجارة العبيد، والتي لا يمكن التسامح ازاءها اطلاقاً، هي ظاهرة “الخصي” لفئة الأغوات الذين يحق لهم الدخول في مجالس النساء الارستقراطيّات، او اؤلئك الذين يعملون في فِراشة الحرم المكّي الشريف.

ولم يُخفي هوروخرونيه بغضه لممارسات اختطاف الأطفال في افريقيا وبيعهم في اسواق الجزيرة العربية، لكنه اعتبر ان السؤال الجوهري يتعلق بنوعية الخطاب المعقول الذي يجدر بالغربيين استخدامه بما يساعد على القضاء على الظاهرة من جذورها، لا مفاقمتها من خلال اعلان العداء لها اعلاميا وسياسيا والترصد لممارسيها. [22]

وهو يضرب مثالاً بالسياسات الأوروبية المتخذة في القرن الافريقي لمكافحة تهريب الرقيق. “لقد اجبرت “الجلاّبين” [اي مهربي العبيد] على اتخاد مسارات أبعد وأكثر وعورة، تصل الى اثني عشر ساعة من المشي على الأقدام للوصول الى الشاطئ، وهو ما يعزز من فرص الوفيات بين الاطفال. “ان سياسات محاربة الرقيق، لم تقلّص من اعداد المهربّين، لكنها فاقمت من اعداد الوفيّات”، يقول هوروخرونيه، الذي وجد في المقابل السياسات العربية في الحجاز اكثر انسانيّة.

هوروخرونيه خلص الى ان تجارة العبيد ستنتفي بالتنميّة البشريّة الحقيقية للمجتمعات الافريقية الفقيرة والمعوزة، “لأنها ستعلي وقتها من قيمة الحياة للأفراد” [23]. وهو ما كان يراه مفقوداً في أبجديات الخطاب الاوروبي الذي اعتبر انه يريد معالجة المسألة بالارجاف والتهمة وفرض سياقاته المختلفة بشكل متعسف.
يحي البشري غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس