الحمد لله وحده وبعد : فقد خلق الله الإنسان في بداية عمره ضعيفاً خفيفاً ، ثم أمده بالقوة والفتوة ( والله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ) قوة الشباب التي يعيش بها أجمل أيامه وأحلى ذكرياته ، ثم تمر السنون والأعوام وتتلاحق.. حتى يصير إلى ضعف والمشيب والكبر ( ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة ) سورة الروم آية رقم (54)
ويقف عند آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه ورق عظمه وشاب رأسه وانتابته الأسقام والآلام فينظر إليه كأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام .
إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته وكبر سنه فرحمه وعفى عنه ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً ) سورة النساء آية رقم (98،99) .
أصبح الكبير اليوم غريباً حتى بين أهله وخلانه؟
من هذا الذي يجالسه؟
من هذا الذي يوانسه؟ من هذا الذي يباسطه ويدخل السرور عليه؟
إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان ، وإذا أبدا رأيه ومشورته سفهه الولدان ، فأصبحت حكمته وحنكته إلى ضيعة وخسران ، أما إذا خرج من بيته فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب ، فإذا خرج اليوم يخرج بالأشجان والأحزان ، يخرج إلى الأحباب والأصحاب يشيع موتاهم ، ويعود مرضاهم ، فالله أعلم كيف يعود إلى بيته ، يعود بالقلب المجروح المنكسر ، وبالعين وبالعين الدامعة ، وبالدمع الغزير المنهمر.
ولقد جاءت كلمات الله تعالى في كتابه بالوصية بالوالدين ومن يقوم مقامهم من الأجداد والجدات لتحرك مشاعر الرحمة في قلوب الأبناء والأحفاد فتنظر قليلاً إلى الوراء ، إلى أيام سلفت لها معهم وهي تشقى وتتعب وتمرض من أجل هذا الوليد ، ومن ثم يقرن الله سبحانه وتعالى هذه الوصية بعبادة الله سبحانه ويجعلها قضاءً مبرماً وأمراً لازما يمتثله المسلم .
ومن ثم أوجب الإسلام على المسلم جملة حقوق لكبير السن ، منها توقيره والعطف عليه والإحسان إليه وقضاء حوائجه فهو سنة من سنن الأنبياء وشيمة من شيم الصالحين الأوفياء ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخٌ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب أني لما أنزلت إليّ من خير فقير ) سورة القصص آية رقم (23،24)
والله سبحانه وتعالى يحب ذلك ويثني عليه خيراً كثيراً ، قال – صلى الله عليه وسلم - : " إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم " رواه أبو داود وحسنه الألباني صحيح الجامع رقم الحديث (195)
فإذا رأيت الكبير فأرحم ضعفه ، وأَكْبرْ شيبهُ ، وقدِّر منزلته ، وأرفع درجته ، وفرِّج بإذن الله كربته ولا تتضايق من مجالسته ، ولا تمل من مضاحكته وإدخال الأنس على قلبه ، فالله أعلم بما هو فيه من ضيق.. وما يدريك لعل لحظة أدخلت فيها الأنس عليه يعظم الله لك بها الثواب ، ويجزل لك بها الحسنى في المرجع والمآب.
ومنها ستر عيوبه ونشر محاسنه والصبر على ما تكره منه واحتساب الأجر عليه من الله جل وعلا ، ومنها عدم مؤاخذته ببطء تفاعله مع ما يدور حوله ، والاستماع بأحاديثه عن الماضي لذي عاش أحداثه ، وشهد صولاته وجولاته إسعاداً لقلبه ، ومنها الدعاء له بالرحمة والمغفرة وجزيل الثواب في الآخرة .
يا معشر الشباب : مرحلة الكبر إحدى مراحل الحياة التي ستمرون عليها فاحرصوا على بر آبائكم وأمهاتكم وأجدادكم وجداتكم ففيه الأجر والمثوبة من الله ، والأثر الطيب في الدنيا ببركة المال والولد وبقاء الذكر الحسن والجزاء من جنس العمل .