مِن عجيبِ ألطَافِ اللهِ تَعالى بِعِبَادِهِ أنّهُ لَم يَجعَل بينَهُ وبينَهُم فِي الدّعاءِ والمَسألَةِ وَاسِطَةٌ ، وإنّمَا جَعَلَ اتّصَالَهُم بِهِ مُبَاشِراً ، بَل بَشّرَهُمْ أنّهُ قَريبٌ مِنهُم سَامِعٌ لِشكوَاهُمْ ، مُجيبٌ لدُعائِهِم ، وَفِي هذَا مِنَ الأسرَارِ العَجيبَةِ والمِنَنِ الإلهيّةِ مَا تنفَدُ عَن كَمَالِ وَصفهِ الأقلامُ ، وتَعجَزُ عَن الإحَاطَةِ بهِ الأفهَامُ .

فَمِن ذلكَ أنّ المُسلِمَ حينَ يدعُو رَبّهُ ويسْألُهُ ، يُفصِحُ لَهُ عَن حاجَتِهِ ، ويُسرّ إليهِ بِطلبَتِهِ ، ويُفضِي إليْهِ بمكنُونِ صَدرِهِ ، وَلَو كانَ بينَهُ وبينَ ربّهِ وَاسِطَةٌ لَرُبّما مَنَعهُ الحَيَاءُ مِن انكِشافِ مَالا يَرغَبُ كَشفَهُ ، فأحجَمَ عَن الدّعاءِ ، وآثرَ الاكتِواءَ بنَارِ هَمّهِ وحَزَنِهِ عَلى إفشَاءِ سِرّهِ .

وِمن ذلكَ أنّ اللهَ عَزّ وجَلّ كَرّمَ بَنِي آدَمَ ، وَمِن تَمامِ تَكريمِهِم أنْ جَعَل اتّصَالَهم بِهِ فِي المَسألَةِ والدّعاءِ ، فإنّ التّذلّلَ لهُ سُبحَانَهُ ودُعاءهُ وسُؤَالَهُ حَالَةُ تَعظِيمٍ للخَالقِ ، وتكرِيمٍ للمَخلُوقِ ، وَلَو جُعِلَتْ لِوَاسِطَةٍ بينَ اللهِ وبينَ خَلقِهِ لكَانَتْ حَالَةَ فِتنَةٍ للمَدعوّ ، وذِلةٍ للدّاعي .

وَمِن ذلكَ أنّ اللهَ سُبحَانَهُ هُو أعلَمُ بِعبَادِهِ ، وأعلَمُ بحَاجَتِهِم ، فَهو يعلَمُ حاجَةَ المَريضِ والمحزونِ والمهمُومِ والفقِيرِ ، ويعلَمُ مَا يُصلِحُ كُلاً مِنهُم ، وَيعلَمُ مَا تحتَويهِ صُدُورُهُم مِن المَسألَةِ والحَاجَةِ ، بَينَمَا لَو كَانَ في الدّعاءِ واسِطَةٌ لعَجِزَ عَنْ إدرَاكـِ كُلّ ذلكَ ، فَليسَتِ النّائِحَةُ الثّكلَى كَالمُستأجَرَةِ .

فَيَا مَنِ اكتَوَى بِنَارِ الهَمّ ، وَغَرِقَ فِي يَمّ الحَزَنِ ، وَيَا أيّهَا البَاحِثُ عَن مَنفَذٍ ومَلجأٍ مِن كُرَبِ الدّنيَا ومَضائِقِهَا ، وأيمُ اللهِ لوِ اجتَمَعَ مَن عَلى الأرضِ لَم وَلَن يكُونُوا أعرَفَ مِنكَ بِحَاجَتِكَ ، وَلا أقدَرَ عَلى الإفصَاحِ عَن شَكوَاكـَ ، ولاَ هُم قَادِرينَ عَلى تَحقِيقِ بُغيَتِكَ ، أوْ تَفرِيجِ كُربَتِكَ .

فَلِمَ تَستَبدِلُ الّذي هُوَ أدنَى بالّذي هُوَ خَيرٌ ؟

أنزِل شكْواكَ بالعَالِمِ بِكَ وبِهَا ، وابثُثْ نَجوَاكَ للقَادِرِ عَليكَ وعلَيهَا ، وأفضِ بِسِرّكـَ لِمن هُو يَعلَم السّرّ وأخفَى

تطَهّرْ لِلِقَائهِ ، واخلُ بِهِ ، ومَجّدهُ وعَظّمهُ ، واقرَأ كَلامَهُ ، وتَأمّل فِي وَاسِعِ رَحمَتِهِ ، ثُمّ اسجُد بَينَ يدَيهِ فِي جَوفِ ليلٍ بَهيمٍ ، ثُمّ قُل لهُ : يارَبّ هَذِهِ حاجَتي أضَعُهَا بينَ يدَيكَ ، وهَذهِ مَسألتِي أرفَعُهَا إليكَ ، ضَربتُ عَن خَلقِك صَفحاً ، ولجأتُ إليكَ طَمعاً ورجاءً ، لأنّكَ أكرَمُ مَن سُئلَ ، وأجوَدُ مَن أعطَى ، وَعِلمِي بِكَ يا سَيّدي أنّكَ حَييّ كَريمٌ تَستَحِي أن تَردّ يدينِ رُفِعَتَا إليكَ صِفراً ، وَظنّي بِكَ يا مَولايَ أنْ لا تَرُدّنِي خَائِباً .

ثُمّ اذكُر حَاجَتَكَ لَهُ ، وفَصّل مَسألتَكَ بَينَ يدَيهِ ، صَغيرةً كَانتْ أو كَبيرةً ، فِي دينِكَ أو دُنيَاكَ ، ونَفسكَ أو مَالِكَ ، وَأهلِكَ أو وَلدِكَ ، تَمَاماً كَمَا هِيَ تَعتَلجُ بِصَدركَ ، وَتجُولُ بِقَلبِكـَ ، وَهُوَ أعلَمُ بِهَا مِنكَ ، وَلكنّهُ يُحبّ تَضرّعَكَ بينَ يديهِ ، والتِجاءكَ لهُ دونَ أحدٍ مِن خَلقِهِ ، وتَذكّرْ وأنتَ تَدعوهُ أنّهُ القَائلُ ( وإذَا سألكَ عِبَادي عَنّي فإنّي قَريبٌ أجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إذَا دَعانِ )

فَرّجَ الله هَمّ كُلّ مَهمُومٍ ، ونَفّس كُربَةَ كُلّ مَكروبٍ ، وَغفرَ لنَا ولكُمْ .



منقول ولا تنسوننا من دعائكم