بين عامين نقلب صفحة ثانية لنرى شيئا من حقيقة الدنيا:

قال الله تعالى { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } في زوالها وفنائها وانقضائها

كيف تكون؟ { كمآء أنزلناه من السماء فأختلط به نبات الأرض } أي: ما فيها من

الحب ، فشب وحسن ، وعلاه الزهور والنور والنضرة ، ثم بعد ذلك كله

{ فأصبح هشيما } يابسا { تذروه الرياح } تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال

وقال سبحانه في بيان حقيقة الدنيا:

{ إنما مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما

يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون

عليها أتاها أمرها ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا لم تغن بالأمس كذلك نفصل

الآيات لقوم يتفكرون } فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع

اغترارهم بها ، وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها ، وتفلتها عنهم

وقال سبحانه عن حقيقة الدنيا:

{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد}

وقال عز وجل { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب } هذه حقيقة الدنيا زهرة فانية

ونعمة زائلة { كمثل غيث } فلا ثبات فيها ولا استقرار ، حوادثها كثيرة وعبرها تمر كل

يوم من أمام أعيننا ، وتغيراتها لا تبقى على حال ، طلوع وأفول ، دول تبني نفسها

وأخرى تزول ، مدن تعمر وأخرى تدمر ، الدنيا أمانيها كاذبة وآمالها باطلة ، عيشتها

نكد وصفوها كدر والمرء منها على خطر ، الحياة فيها إما بنعمة زائلة ، أو بلية نازلة

أو مصيبة موجعة ، أو ميتة قاضية ، ما هي إلا أيام معدودة وآجال مكتوبة وأنفاس محدودة

وأعمال مشهودة ، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا ، وإن أسرت يوما أساءت أشهرا وأعواما

إن متعت فيها قليلا منعت منها طويلا ، الدنيا يا ـ أخي المسلم ـ ما حصل لك فيها من

سرور إلا خبأت لك أضعافه شرورا ، ولا ملأت بيتا فرحا إلا كدرته حزنا وترحا

{ يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار }

فبقاؤك في هذه الحياة ما هو إلا بمقدار نزول المطر ونبات الزرع ، فإذا وقف الماء

عنه زال ، فبهذا ينتهي شريط الحياة ، وما بين الولادة والطفولة والشباب والشيخوخة

والهرم إلا الموت ، نعم.. الموت يطوي سجل الإنسان وتنتهي حياته وكأنه ما لبث فيها

غير ساعة ، فيا عجبا من كثير من الناس تراهم { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا }

وزخرفها وشهواتها { وهم عن الآخرة هم غافلون } لا يفكرون في الآخرة ولا يعملون ما ينفعهم

ما استشعروا نداء الله لهم عنها

{ يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا }

لا تخدعكم أفكار وخطط وشهوات وتزين المنافقين والعلمانيين فيها

وصى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ابن عمر بوصية أغلى من الدنيا وما فيها

وصاه وصية تصحح سيره في هذه الحياة حيث قال:

" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " رواه البخاري

فالغريب وعابر السبيل لا يدنس نهاره بالآثام ولا يقصر الليل بغفلته وسهراته

إن دعي إلى طاعة أجاب ، وإن نودي إلى الصلاة لبى ، حديثه بتلاوة وآيات

وهمه المسابقة في الخيرات ، إن الذين عرفوا حقيقة الدنيا هم الأنبياء

وعلى رأسهم نبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولذا قال:

" مالي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها "

رواه الترمذي وغيره ، قيل لنوح عليه الصلاة والسلام

يا أطول الأنبياء عمرا كيف رأيت الدنيا؟ قال:

" كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر"

ومن وصايا عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأصحابه قوله:

" الدنيا قنطرة اعبروها ولا تعمروها "

مساكين الذين أنشغلوا بها وتمتعوا بشهواتها وملاذها ، مساكين عمروها بالمعاصي والآثام

حتى طويت صحائفهم وما استعدوا ليوم الرحيل ودار القرار.

ما سبب تشتت هموم القلب وانشغاله وقسوته؟

إنه التعلق بالدنيا والإنشغال كل الإنشغال بها عن الآخرة ، ولذا تجد الكثير من الناس

عمله السيء أكثر من الحسن ، وهمومه وتفكيره وأهدافه بل وغاية وقته كلها مصروفة

للدنيا ، والآخرة نصيبها قليل حتى عند الذين قد يفكرون في الآخرة.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا