مدرسة منيف القحطاني للعلاقات الإنسانية .. ورحل الرائد!

"لا تقلق يا أبا فيصل .. فلو أردتها ألفا من مائة لوضعتها لك ولا أبالي".

كلمات ما زالت ترن في أذني ، كلما تذكرت أبا عبد الرحمن رحمه الله ،
وكيف أنه رحل عن هذه الدنيا .. رجل طيب ذكره ، كريم معشره ، رطب لسانه ،
خفيفة روحه ، وراجح عقله .. فيا للفجيعة؟! ويا للفقد ؟! آه يا أبا عبد الرحمن ..
والله إن القلب ليتفطر .. وإن النفس لتذوي وتذوب كمدا .. وإنا لفراقك لمحزونون.

كنت دائما لنا الأخ والصديق والناصح والموجه ، كنت أكبرنا بعقلك وخبرتك ،
عشنا وإياك سبعا من السنين كانت من أجمل سني عملنا التربوي ،
وبمجرد انتقالك من مدرستنا مديرا لأخرى انفرطت سبحة الخير،
فخرجنا دون ترتيب مسبق الواحد تلو آخر ، فكان منا المدير ومنا الوكيل
ومنا المرشد ومنا الموفد، ليكون لك فضل بعد الله في مد الميدان بكوادر
جديدة تسهم بما تعلموه في مدرستك الفريدة في إثراء ميدانهم كل في مجاله.

لقد أضحت أسماء طالبي والجوفي ورمضان والشهري محمد وزيد وفواز وعيد
وممدوح وغيرهم أسماء رائعة ، أسهمت بخبراتها التي صقلتها بحسن تعاملك
ورجاحة عقلك ليصبحوا لاعبين جددا في ميداننا التربوي الخصيب ،
غير من بقي في مدرستنا العامرة حبيب بن زيد أمثال السعودي
وفيصل ومساعد وهزاع وسلطان وعبد الله وغيرهم كثيرون، الذين يدعون لك بالخير
دائما ، ولا يقولون إلا جملتك التي علمتنا إياها وهي: "الله يذكره بالخير".

لا أجد من الكلمات التي تفي هذا الرجل حقه ، لقد رحل رائد بحق من الرواد
القلائل الذين أسسوا بفكرهم الخالص مدارس خاصة في تخصصات نادرة ، فهو
لم يعرف هوجو برج رائد مدرسة العلاقات الإنسانية ، ولم يقرأ تعريفات سكوت ،
وستالون وغيرهما من أنها "الإدارة التي تهتم بخلق علاقات إنسانية جيدة وحالة
رضا عالية بين العاملين ، والسبب في ذلك هو أن الرضا يؤدي إلى زيادة الإنتاجية .. إلخ" ،
ولكنه أسس لها خطا متوازيا آخر ، يسمى بحق مدرسة منيف القحطاني للعلاقات الإنسانية.

إن الفقيد رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ، رجل نادر في زمان غابر ،
عاش لغيره ، أسس بأسلوبه الرائع مفهوما جديدا للعلاقة بين الرئيس
والمرؤوس وبين مدير المدرسة والمعلم ، أفرط في استخدام العلاقات الإنسانية
ليكسب زملاءه ، ويخسر غيرهم ، لأنه رأى فيهم الأهم ، ودائما ما يذكرنا بأنه
لا يبقى بين الزملاء في المكان الواحد سوى مقولة: "فلان .. الله يذكره بالخير".

طوال سبع سنوات لم أر منه مساءلة أو امتعاضا أو غضبا عن غياب أو تقصير
وإهمال ، بل كان سؤاله الاعتيادي: "سلامات عسى ما شر؟"،
وعندما يعرف الوضع وأطلب الإجراء الرسمي بحقي ، كان يرد :
"الله يهديك الأمور هذه ليست بيننا ، الأهم أنك بخير".

لقد كان يتحمل الكثير في سبيل ألا تشوب علاقته بالمعلم شائبة حتى
لو كان ذلك على حسابه ، بل لم نره إلا مبتسما ، ويدعو للتفاؤل دائما ،
ومن ضمن عباراته الرائعة التي تعزز الموظف وتعطيه ثقته بنفسه:
"ولا يهمك يا أبو فلان" ، "لا تحزن" ، "الأهم أننا على قلب واحد" ، فأي تعزيز
وأي روح للفريق وأي سقف عالٍ من التفاؤل والطموح التي يطالب بها عتاة التربية !.

وفوق ذلك كله كان أبو عبد الرحمن صاحب قفشات معنا ..
ولا تعلمون مقدار سعادتي عندما كنت أقابله في اجتماعات مديري المدارس ،
لأجد صاحبي اليوم هو صاحبي بالأمس ، ينصح ويعزز ويوجه،
والابتسامة وبشاشة الوجه والطرافة عنوانه الدائم.

كثيرة هي المواقف التربوية والعملية وغيرها التي مرت بنا معه ،
ولكن النقاش دائما ما يمضي برضا الطرفين ، ومن ضمن القصص التي مرت بنا
أنه في يوم من الأيام أرسل لي - أبو عبد الرحمن - تقييما كي أوقعه وأنا
في الفصل، وكانت الدرجة المدونة لا تلبي ما أطمح إليه، فوقعتها ومن ثم ذهبت
إليه في الفسحة مستسمحا منه إن كنت قصرت ولا أعلم ،
آملا منه أن يعطيني فرصة أخرى للتعويض ويزورني في الفصل لاحقا ليجد
ما يسره بإذن الله، فكان رده شافيا كعادته : "ومن مثلك يا أبا فيصل ،
لن أزورك ولا أي شيء مما تذكر ، ولكن أعذرني هي درجات طلبت مني
فوضعتها على عجل أمامه ليراها من طلبها مني فقط ولم أعتمدها،
ولا تقلق يا أبا فيصل .. فلو أردتها ألفا من مائة لوضعتها لك ولا أبالي".
وقد فعل رحمه الله فكانت الدرجة التي أريد.

في يوم العزاء أشبع المعزون ممن زاملوه في مدارسه الثلاثة التي أدارها ،
أقرباءه بكلمات المدح والثناء على الفقيد، فقال لنا قريبه ناصر القحطاني :
لستم وحدكم من أثنى عليه، أنتم شهداء الله في أرضه ، وجزاكم الله كل خير،
ونسأل الله له الرحمة والمغفرة وأن يتقبله بقبول حسن.

رحمك الله يا أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته ، وجعل قبرك روضة من رياض
الجنة، ولله ما أخذ ولله ما أعطى. ولا نقول إلا ما يقوله العبد المؤمن عند كل
فجيعة: "إنا لله وإنا إليه راجعون".

------------------------------------------

الكاتب / زيد فلاح الخمشي

http://www.aleqt.com/2011/10/08/arti...l#comment_form