إبن ناشر
20-05-2009, 07:03 AM
سليمان الهتلان
إشكالية تنموية: الجامعة أم القبيلة؟
إذاً، سلطة القبيلة، بإمكاناتها المادية المحدودة، ما زالت أقوى من ثقافة الجامعة وتأثيرها؟ في نجران، جنوب السعودية، نجحت القبيلة في حل خلاف بين مجموعة من طلاب جامعة نجران أدى إلى دخول أحدهم المستشفى لمدة 11 يوماً، وكاد يفقد حياته بعد أن لاحقته مجموعة من طلاب الجامعة، من قبيلة غير قبيلته، بسيارتهم محاولين دهسه.
ويصف الخبر الصحفي الذي نشر عن هذه الحادثة أن أبناء قبيلة الطلاب المعتدين قد حضروا إلى مقر القبيلة الثانية (قبيلة الطالب المعتدى عليه) معتذرين عما بدا من أبنائهم حاملين معهم عشرة خرفان وقعوداً خاضعين لأي طلب للتكفير عما بدا من أبنائهم، وانتهى الجمع إلى صلح بين القبيلتين مع رفع "الراية البيضاء" للقبيلة التي قبلت الصلح. واللافت أن أجهزة الأمن قد حضرت أيضاً إلى مكان الصلح "وكان لها الدور البارز في التنظيم والمتابعة" كما ورد في الخبر المنشور بصحيفة الرياض (30 يناير 2009).
هكذا تكون محاور القصة أعلاه: جامعة، قبيلة، أجهزة أمنية، شباب (طلاب جامعة)، وعشرة خرفان وقعود. في هذه الحادثة، لا نلوم القبيلة التي وجدت، وفقاً لأعرافها وتقاليدها، حلاً لمشكلة كان يمكن أن تتطور فتدخل القبيلتان في صراعات ثأر قد تنتهي بمزيد من الدم. وفي الوقت نفسه لا نلوم الأجهزة الأمنية التي سهلت مهمة الصلح بين القبيلتين. وأيضاً لا نلوم الجامعة الحديثة التي تأسست في أحضان القبيلة التي تحاصرها من كل اتجاه. لكن هذه الحادثة يجب أن تساعدنا في طرح أسئلة أخرى حيال فكرة "التنمية" في عالمنا العربي. كيف تنتقل بالفرد من عصبية القبيلة إلى مجتمع جديد وفكر جديد يغير من سلوكه ومن رؤيته تجاه ذاته وتجاه الآخرين؟ ومن يؤثر في من؟ هل تؤثر الجامعة في المجتمع أم يؤثر المجتمع في الجامعة؟ هنا قصة طريفة من قرية قصية في منطقة سعودية نائية.
قبل ثلاثة عقود، أسست وزارة المعارف آنذاك مدرسة لمحو الأمية. بدأ كثير من أبناء القرية بالانضمام للمدرسة، لكن القليل منهم فقط تعلم بعض أبجديات القراءة والكتابة. لم يستفد من المدرسة سوى عدد قليل. ويرجع السبب في ذلك إلى أن المعلمين في تلك المدرسة، وكانوا قادمين من مناطق أخرى وبلاد عربية أخرى، وجدوا أنفسهم تدريجياً وقد احتوتهم ثقافة القرية حتى أسرتهم. في أيام كثيرة استفزع أهل القرية بالمعلمين لمشاركتهم البحث عن غنم ضائعة. وفي أوقات أخرى اضطر معلمو المدرسة للمساهمة في احتفالات الصلح بين أبناء القرية المختلفين على قطعة أرض أو بسبب كلمة قيلت في أحد مجالس القرية. وفي الأوقات القليلة التي يحضر فيها أبناء القرية إلى مدرسة محو الأمية، تتحول فصول المدرسة إلى أماكن للاجتماع وشرب شاي "العصرية" وسماع آخر أخبار القرية فأغلقت المدرسة وباء مشروع مكافحة الأمية في تلك القرية بالفشل. بمعنى آخر، نجحت القرية في احتواء المدرسة إلى ثقافتها وتقاليدها وعوالمها. لكن يبقى السؤال المهم: ماذا يتعلم الطالب في مدرسته أو جامعته؟ القراءة والكتابة؟ هل يقرأ الطالب كي يكتشف عوالم جديدة للمعرفة والاكتشاف؟ أم تصبح القراءة أداة لمزيد من التجهيل؟ القضية ليست في القدرة على القراءة، فالقراءة بحد ذاتها أداة، لكنها فيما يقرأ الإنسان. أي: هل تقرأ ما يساعدك على الانفتاح الإيجابي على المعرفة أم تقرأ ما يختزل فكرك ورؤيتك في مواقف تزيد من انغلاقك وتهميش اهتماماتك؟ تأمل في حال كثير من أبناء الأجيال السابقة التي لم تتح لها فرصة تعلم القراءة والكتابة وكيف كانت أكثر تنويراً وانفتاحاً في رؤيتها للحياة ولنفسها وللناس من حولها. إنها التجربة (المحك) التي تنقل الإنسان من مرحلة ما إلى مرحلة أخرى من التفكير والرؤية والتعامل. ولهذا فالطلاب الجامعيون في جامعة نجران الذين اعتدوا على زميلهم، من غير قبيلتهم، قد يكونون من أفضل طلاب الجامعة في تحصيلهم الدراسي وربما تخرجوا في الجامعة بامتياز، لكن كل ذلك لن يعني مقدرة على الخروج من أسر القبيلة التي مثلما تزرع في عقول أبنائها كثيراً من قيم الخير والكرم والشهامة، فإنها أيضاً تفرض على الفرد مفاهيم مثل الحمية والعصبية والثأر، مفاهيم (أو قيم) يصعب عليها أن تتعايش مع الزمن الجديد حيث يفرض على المرء الخروج من دائرة الجماعة الصغيرة (القبيلة) لكي يصبح - رغما عنه - "فرداً" في مجتمع عالمي له مفاهيمه الجديدة وقيمه المختلفة. من هنا يصبح السؤال مشروعاً: أي خطط تنموية يمكنها أن تساعد المجتمع على التعامل مع الحياة بأدوات ومفاهيم العصر؟ ولهذا، فإن حادثة طلاب جامعة نجران، إذا قرأناها في سياق تنموي أشمل، هي، في الواقع، قصة العالم العربي في مجمله. فالقبيلة التي تصر على العيش في الماضي وتتشبث بما بقي لها من "هيبة" لا تعرف إلى أين ستأخذها رياح التغيير الكبير من حولها. والإنسان العربي اليوم يعيش أسيراً في عنق الزجاجة، فإما نجح في الخروج إلى عالم فسيح ومليء بالتحدي الممتع وإما عاد إلى قاع الزجاجة لا يقوى حتى على التنفس؛ لأن زجاجته تلك قد يدفنها غبار المنطلقين سريعاً نحو مستقبل مختلف بشروطه التي لن يقواها سوى المصرين على البقاء!.
إشكالية تنموية: الجامعة أم القبيلة؟
إذاً، سلطة القبيلة، بإمكاناتها المادية المحدودة، ما زالت أقوى من ثقافة الجامعة وتأثيرها؟ في نجران، جنوب السعودية، نجحت القبيلة في حل خلاف بين مجموعة من طلاب جامعة نجران أدى إلى دخول أحدهم المستشفى لمدة 11 يوماً، وكاد يفقد حياته بعد أن لاحقته مجموعة من طلاب الجامعة، من قبيلة غير قبيلته، بسيارتهم محاولين دهسه.
ويصف الخبر الصحفي الذي نشر عن هذه الحادثة أن أبناء قبيلة الطلاب المعتدين قد حضروا إلى مقر القبيلة الثانية (قبيلة الطالب المعتدى عليه) معتذرين عما بدا من أبنائهم حاملين معهم عشرة خرفان وقعوداً خاضعين لأي طلب للتكفير عما بدا من أبنائهم، وانتهى الجمع إلى صلح بين القبيلتين مع رفع "الراية البيضاء" للقبيلة التي قبلت الصلح. واللافت أن أجهزة الأمن قد حضرت أيضاً إلى مكان الصلح "وكان لها الدور البارز في التنظيم والمتابعة" كما ورد في الخبر المنشور بصحيفة الرياض (30 يناير 2009).
هكذا تكون محاور القصة أعلاه: جامعة، قبيلة، أجهزة أمنية، شباب (طلاب جامعة)، وعشرة خرفان وقعود. في هذه الحادثة، لا نلوم القبيلة التي وجدت، وفقاً لأعرافها وتقاليدها، حلاً لمشكلة كان يمكن أن تتطور فتدخل القبيلتان في صراعات ثأر قد تنتهي بمزيد من الدم. وفي الوقت نفسه لا نلوم الأجهزة الأمنية التي سهلت مهمة الصلح بين القبيلتين. وأيضاً لا نلوم الجامعة الحديثة التي تأسست في أحضان القبيلة التي تحاصرها من كل اتجاه. لكن هذه الحادثة يجب أن تساعدنا في طرح أسئلة أخرى حيال فكرة "التنمية" في عالمنا العربي. كيف تنتقل بالفرد من عصبية القبيلة إلى مجتمع جديد وفكر جديد يغير من سلوكه ومن رؤيته تجاه ذاته وتجاه الآخرين؟ ومن يؤثر في من؟ هل تؤثر الجامعة في المجتمع أم يؤثر المجتمع في الجامعة؟ هنا قصة طريفة من قرية قصية في منطقة سعودية نائية.
قبل ثلاثة عقود، أسست وزارة المعارف آنذاك مدرسة لمحو الأمية. بدأ كثير من أبناء القرية بالانضمام للمدرسة، لكن القليل منهم فقط تعلم بعض أبجديات القراءة والكتابة. لم يستفد من المدرسة سوى عدد قليل. ويرجع السبب في ذلك إلى أن المعلمين في تلك المدرسة، وكانوا قادمين من مناطق أخرى وبلاد عربية أخرى، وجدوا أنفسهم تدريجياً وقد احتوتهم ثقافة القرية حتى أسرتهم. في أيام كثيرة استفزع أهل القرية بالمعلمين لمشاركتهم البحث عن غنم ضائعة. وفي أوقات أخرى اضطر معلمو المدرسة للمساهمة في احتفالات الصلح بين أبناء القرية المختلفين على قطعة أرض أو بسبب كلمة قيلت في أحد مجالس القرية. وفي الأوقات القليلة التي يحضر فيها أبناء القرية إلى مدرسة محو الأمية، تتحول فصول المدرسة إلى أماكن للاجتماع وشرب شاي "العصرية" وسماع آخر أخبار القرية فأغلقت المدرسة وباء مشروع مكافحة الأمية في تلك القرية بالفشل. بمعنى آخر، نجحت القرية في احتواء المدرسة إلى ثقافتها وتقاليدها وعوالمها. لكن يبقى السؤال المهم: ماذا يتعلم الطالب في مدرسته أو جامعته؟ القراءة والكتابة؟ هل يقرأ الطالب كي يكتشف عوالم جديدة للمعرفة والاكتشاف؟ أم تصبح القراءة أداة لمزيد من التجهيل؟ القضية ليست في القدرة على القراءة، فالقراءة بحد ذاتها أداة، لكنها فيما يقرأ الإنسان. أي: هل تقرأ ما يساعدك على الانفتاح الإيجابي على المعرفة أم تقرأ ما يختزل فكرك ورؤيتك في مواقف تزيد من انغلاقك وتهميش اهتماماتك؟ تأمل في حال كثير من أبناء الأجيال السابقة التي لم تتح لها فرصة تعلم القراءة والكتابة وكيف كانت أكثر تنويراً وانفتاحاً في رؤيتها للحياة ولنفسها وللناس من حولها. إنها التجربة (المحك) التي تنقل الإنسان من مرحلة ما إلى مرحلة أخرى من التفكير والرؤية والتعامل. ولهذا فالطلاب الجامعيون في جامعة نجران الذين اعتدوا على زميلهم، من غير قبيلتهم، قد يكونون من أفضل طلاب الجامعة في تحصيلهم الدراسي وربما تخرجوا في الجامعة بامتياز، لكن كل ذلك لن يعني مقدرة على الخروج من أسر القبيلة التي مثلما تزرع في عقول أبنائها كثيراً من قيم الخير والكرم والشهامة، فإنها أيضاً تفرض على الفرد مفاهيم مثل الحمية والعصبية والثأر، مفاهيم (أو قيم) يصعب عليها أن تتعايش مع الزمن الجديد حيث يفرض على المرء الخروج من دائرة الجماعة الصغيرة (القبيلة) لكي يصبح - رغما عنه - "فرداً" في مجتمع عالمي له مفاهيمه الجديدة وقيمه المختلفة. من هنا يصبح السؤال مشروعاً: أي خطط تنموية يمكنها أن تساعد المجتمع على التعامل مع الحياة بأدوات ومفاهيم العصر؟ ولهذا، فإن حادثة طلاب جامعة نجران، إذا قرأناها في سياق تنموي أشمل، هي، في الواقع، قصة العالم العربي في مجمله. فالقبيلة التي تصر على العيش في الماضي وتتشبث بما بقي لها من "هيبة" لا تعرف إلى أين ستأخذها رياح التغيير الكبير من حولها. والإنسان العربي اليوم يعيش أسيراً في عنق الزجاجة، فإما نجح في الخروج إلى عالم فسيح ومليء بالتحدي الممتع وإما عاد إلى قاع الزجاجة لا يقوى حتى على التنفس؛ لأن زجاجته تلك قد يدفنها غبار المنطلقين سريعاً نحو مستقبل مختلف بشروطه التي لن يقواها سوى المصرين على البقاء!.