المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بوشاهره


إبن ناشر
07-01-2009, 07:36 AM
الأربعاء 10 محرم 1430هـ الموافق 7 يناير 2009م العدد (3022) السنة التاسعة

كتاب اليوم

علي سعد الموسى
بوشاهره
حمل معه إلى سرير المستشفى كل تفاصيل القرية. في قدميه كل تضاريسها وشقوق تربتها الظامئة. في ساقيه

النحيلتين، بقايا العروق السوداء التي تماثل حواف حقل مهجور من تلك الحقول التي ظلت ثمانين عاماً وهي تغذيه

ولكنها تتغذى منه. في جبهته الشاحبة صورة مدهشة لمقبرة القرية حيث التجاعيد تختصر كل أجساد الأجيال التي

تنتظره على أحر من الجمر. في لحيته الجافة بقايا سنابل قمح أنهكتها شمس النهار وهي تستمطر عبثاً تلك السحابة ا

لبيضاء الشاردة. السحابة البيضاء لا تمطر. كفوفه مثل أوراق تين ذابلة في منتصف الخريف، تحاول أن تشرب من (عجز)

أصفر اللون. ينتابك إحساس غريب أن هذه الكفوف على وشك السقوط لمجرد أن تهزها هزة خفيفة. لسانه الجاف يرقد

بين شفتين سوداوين: مثل مزارع أتعبته الريح والشمس والغبار والجفاف فاستلقى للقيلولة بين حجرين. ذراعه مثل خشبة

باردة من تلك التي تسند محراب مسجد القرية القديم المهجور: ينتابك، مرة أخرى، ذلك الإحساس الغريب ، أنك لا تزور

في المستشفى جسد الرمز القروي الأصيل، بل تقف من فوق الجبل على بقايا قرية مندثرة. كله، وبكل ما فيه، صورة

خيالية لأرذل العمر حتى لتكاد خيالاً أن تظن أن كل بقايا الجسد تنكمش وكأننا سندفنه في تجاعيد جبهته حيث صورة

المقبرة وحيث آلاف الراحلين من قبله وحيث كان قدره أن يلد وأن يموت وحيث كان حظه الاستثنائي الوحيد من رحلة

الحياة فالمسافة ما بين حقله وما بين تلك المقبرة لم تكن بأكثر من عرض ساقه النحيل فلا تعلم إن كان ذلك الساق سوراً

للمقبرة أم هو (حارَّة) الحقل. ودعته من عينيه الغائرتين مثل بئرين متجاورتين: سواد كثيف مثل ما تنظر إلى عبث الماء

الشارد في بئر ـ أم غانم ـ حيث هو: سبعين عاماً يهبط هذه البئر وكأنه يستنزف عينيه، يجرب عضلات ساقيه. كل مشوار

حياته هو المسافة ما بين البئر والقبر.