المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسةٌ في العقل (الحلقة الثانية)


عبدالله آل مسعود القحطاني
11-02-2008, 02:55 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،أما بعد:
فهذه الحلقة الثانية في الكلام على العقل،أسأل الله أن ينفع بها الجميع...

-ويطلق العقل اصطلاحاً على أربعة معان لا ينفك واحد منها عن الآخر،ومتى فقد واحد منها قيل لصاحبه:"ليس بعاقل"انظر:"بغية المرتاد"ص260،"درأتعارض العقل والنقل"1/89،"مجموع الفتاوى"9/305،"شرف العقل وماهيته"ص للغزالي،"مفردات غريب القرآن"ص341للراغب.:

-المعنى الأول:الغريزة التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان؛فبها يعلم،وبها يعقل،وبها يميز،وبها يقصد المنافع دون المضار.

قال الماوردي-رحمه الله-:"فالغريزة هو العقل الحقيقي،وله حد يتعلق به التكليف،لا يجاوزه إلى زيادة ،ولا يقصر عنه إلى نقصان،وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان"ا.هـ."أدب النيا والدين"ص6.

وقل الغزالي-رحمه الله-في بيان هذا المعنى:"الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم،وهو الذي استعد به لفبول العلوم النظرية،وتدبر الصناعات الخفية الفكرية"ا.هـ."شرف العقل وماهيته"ص58.

وعبر اللراغب-رحمه الله- عن هذا المعنى بأنه"القوة المتهيئة لقبول العلم"ا.هـ."مفردات غريب القرآن"341.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس،ولا بين أيام الأسبوع،ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل.
أما من فهم الكلام،وميز بين ما ينفعه،وما يضره فهو عاقل"ا.هـ."مسألة في العقل والنفس"-ضمن"مجموع الفتاوى"9/287.

وهذه الغريزة شرط في كل علم واعتقاد،وهي مناط التكليف؛فإذا عدمت في العبد سقطت عنه التكاليف الشرعية؛فكل نص من الكتاب أو السنة فيه رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى هذا النوع انظر:"مفردات غريب القرآن"ص341.-كما سيأتي-.

قال الحارث المحاسبي-رحمه الله-:"فالعقل غريزة جعلها الله في الممتحنين من عباده،أقام به على البالغين للحلم الحجة،وأنه خاطبهم من جهة عقولهم،ووعد،وتوعد،وأمر،ونهى،وحضَّ،وندب"ا.هـ."شرف العقل وماهيته"19.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-أن هذا النوع من العقل"يفرق به بين المجنون الذي رفع عنه القلم،وبين العاقل الذي جرى عليه القلم،فهذا مناط التكليف"ا.هـ."بغية المرتاد"ص260.
وقال أيضاً:"وهي –أي الغريزة-شرط في كل علم عقلي وسمعي كالحياة...،وهي أيضاً شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال-وإن لم تكن علماً-"ا.هـ."درأ تعارض العقل والنقل"1/89.
وقال أيضاً:"والعقل المشروط في التكليف لا بد أن يكون علوماً يميز بها الإنسان بين ما ينفعه،وما يضره"ا.هـ."مسألة في العقل والنفس"-ضمن"مجموع الفتاوى"9/287-.

وهذه الغريزة لا يمكن للبشر معرفة وجودها في العبد من عدمها إلا بواسطة ما يشاهدونه عليه من آثارها الحميدة؛فإن وجدت فيه هذه الآثار عرفوا وجود هذه الغريزة،وإن لم توجد عرفوا عدمها:

قال الحارث المحاسبي-رحمه الله-(ت243):"فأما هو في المعنى والخقيقة لا غيره فهو غريزة وضعها الله-سبحانه-في أكثر خلقه،لم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض،ولا اطلعوا عليها من أنفسهم برؤية،ولا بحس،ولا ذوق،ولا طعم،وإنما عرفهم الله-سبحانه وتعالى-إياه بالعقل منهم،فبذلك العقل عرفوه،وشهدوا عليه بالعقل-الذي عرفوه به من أنفسهم بمعرفة ما ينفعهم،ومعرفة ما يضرهم"ا.هـ."شرف العقل وماهيته"ص17.
فبإمكان البشر أن يطلعوا بعقولهم على هذه الغريزة:أهي موجودة عند فلان أو ليست كذلك؟بالنظر إلى أفعال جوارحه؛فـ"إذا رأوا من أفعاله ما يدلهم على أنه قد عرف ما ينفعه في دنياه،وما يضره،وإذا رأوه طالباً عاملاً في ما ينفعه من دنياه،مجانباً لما يضره من دنياه سموا من كان كذلك عاقلاً،وشهدوا له أن له عقلاً،وأنه لا مجنون،ولا تياه،ولا أحمق"ا.هـ."شرف العقل وماهيته"ص18.

ومن هذه الآثار ما ذكره ابن قـرِّيَّة0ت84)بقوله:"الرجال ثلاثة:عاقل،وأحمق،وفاجر:
فالعاقل إن كُلِّم أجاب،وإن نَطق أصاب،وإن سمع وعى،والأحمق إن تكلم عَجِل،وإن تحدث وَهِل،وإن حُمِل على القبيح فَعَل،والفاجر إن ائتمنته خانك،وإن حادثته شانك،وإن استكتمته سراً لم يكتمه عليك"ا.هـ.انظر:"العقل وفضله"ص5لابن أبي الدنيا.
وما ذكره الشاعر بقوله:"
"يُعرف عقل المرء في أربعٍ مشيته أوَّلُها،والحَـرَك.
ودور عينه،وألفاظُـــهُ بَعْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدُ عليهنَّ يدور الفلَكْ.
وربما أخْلَفْــــنَ إلا التـــــي آخرها منهنَّ سُمِّين لك"ا.هـ.انظر:"العقد الفريد"2/106.

-المعنى الثاني:العلوم الضرورية الملازمة للإنسان؛فتقع في نفسه ابتداء كالعلم بجواز الممكنات،ووجوب الواجبات،واستحالة الممتنعات،كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد،وأن الشخص لا يكون في مكانين في وقت واحد،وأن الشئ لا يخلو من الوجود أو العدم،وأن الموجود لا يخلو من الحدوث أو القدم،واستحالة اجتماع الضدين.انظر:"شرف العقل وماهيته"ص59،"أدب النيا والدين"ص7،"بغية المرتاد"ص260.

وهذه العلوم تشمل العقلاء جميعاً.انظر:"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة"1/159لعثمان بن حسن.

-المعنى الثالث:العلوم المكتسبة بواسطة العقل،والتي تدعو الإنسان إلى فعل ما ينفعه،وترك ما يضره.

قال الغزالي-رحمه الله-(ت505):"الثالث:علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال؛فإن من حنَّكَتْه التجارب،وهذبته المذاهب يقال:"إنه عاقل"في العادة،ومن لا يتصف بهذه الصفة يقال:"إنه غبي،غُمْر،جاهل".
فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلاً"ا.هـ."شرف العقل وماهيته"ص58.

وعبر الراغب الأصفهاني-رحمه الله-(502) عنه بأنه"العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة"ا.هـ."المفردات في غريب القرآن"ص341.
وإلى هذا النوع أشار معاوية-رضي الله عنه-بقوله:"العقل عقلان:عقل تجارب،وعقل نحيرة،فإذا اجتمعا في رجل فذاك الذي لا يقام له،وإذا تفردا كانت النحيرة أولاهما"ا.هـ.انظر:"العقل وفضله"ص50لابن أبي الدنيا.
فعقل التجارب هو العلوم المكتسبة بواسطة العقل،وعقل النحيرة هو الغريزة التي في الإنسان،والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان.

وقيل أيضاً:"العقل ضربان:عقل الطبيعة،وعقل التجربة،وكلاهما يحتاج إليه،ويؤدي إلى المنفعة"ا.هـ.انظر:"العقد الفريد"2/108.

وكل نصٍّ فيه مدح لمن يعقل،أو حث على التعقل،أو ذم لمن لا يعقل،أو نفي له عن الكفار والمنافقين فإشارة إلى هذا النوع من العقل.انظر:"المفردات في غريب القرآن"ص342،"بغية المرتاد"ص260.

وليس لهذا النوع حدٌّ "لأنه ينمو إن استعمل،وينقص إن أهمل" انظر:"أدب الدنيا والدين"ص7للماوردي.
وبناؤه يكون بأمرين:كثرة الاستعمال،وفرط الذكاء،وحسن الفطنة.انظر:"أدب النيا والدين"ص7-8للماوردي.
وهذه التجارب ليس لها حدٌّ؛فالعقل منها في ازدياد كما قال أحدهم:
"ألم تر أن العقل زيْنٌ لأهلهِ وأن كمال العقل طولُ التجاربِ". انظر:"العقد الفريد"2/109لابن عبدربه.

والعقل بهذا المعنى لا ينفك عن العقل الغريزي لأنه نتيجة له،وقد ينفك العقل الغريزي عنه؛فيكون صاحبه مسلوب الفضائل،موفور الرذائل،كالأَنْوَك-الذي لا تجد له فضيلة،والأحمق الذي قلما يخلو من رذيلة-.انظر:"أدب الدنيا والدين"ص14-15للماوردي.

-المعنى الرابع:الأعمال التي يستوجبها العلم؛"فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية،وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق""مجموع الفتاوى"6/336.؛فمن ترك العمل بموجب هذه العلوم لم يكن له عقل بهذا الاعتبار؛"فإن كثيراً من الحقائق يصح إطلاق النفي عليها باعتبار عدم فائدتها،وليست مجازاً كقوله –صلى الله عليه وسلم-عن الكهان:"ليسوا بشئ"،ومنه هذا سلب الحياة والسمع والبصر والعقل عن الكفار،و من هذا سلب الإيمان عن من لا أمانة له،وسلبه عن الزاني والسارق والشارب الخمر والمنتهب،وسلب الصلاة عن الفذ خلف الصف،وسلب الصلاة عن من لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب،ولم يطمئن في صلاته عند كثير من هؤلاء؛فإن هذه الحقائق ثابتة عندهم،و قد أطلق عليها السلب.
وليس من هذا قوله-صلى الله عليه وسلم-:"ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان"و"ليس الشديد بالصرعة"ونحو ذلك؛فإن هذا لم ينف فيه صحة إطلاق الاسم،وإنما نفى اختصاص الاسم بهذا الاسم وحده،وأن غيره أولى بهذا الاسم منه؛فتأمله؛فإن بعض الناس نقض به عليهم قولهم:"إن المجاز ما صح نفيه"،وهو نقض باطل،وأما النقض الصحيح فما صح نفيه لنقصه وعدم حصول المطلوب منه مع إطلاق الاسم عليه حقيقة"."مختصر الصواعق"2/16.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-(ت728):" فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه ولا العمل بلا علم بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم ولهذا قال أهل النار لو كنا نسمع او نعقل ما كنا فى أصحاب السعير وقال تعالى أو لم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها"ا.هـ."رسالة في النفس والعقل"-ضمن"مجموع الفتاوى"9/286-287.

ومن شواهد هذا النوع قول سفيان بن عيينة-رحمه الله-(ت198):"ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر،ولكن العاقل الذي يعرف الخير؛فيتبعه،ويعرف الشر؛فيجتنبه"ا.هـ.انظر:"العقل وفضله"ص59لابن أبي الدنيا.
وقال أيضاً:"لا تنظروا إلى عقل الرجل في كلامه،ولكن انظروا إلى عقله في مخارج أموره"ا.هـ.انظر:"العقل وفضله"ص6لابن أبي الدنيا.
وقال عامر بن قيس:"إذا عقلت عقلك عما لا ينبغي فأنت عاقل"ا.هـ.انظر:"العقل وفضله"ص6لابن أبي الدنيا.
وقال إبراهيم بن إسحاق التميمي:"قلت لورد بن محمد نصرويه-وكان قد بلغ عشرين ومئة سنة-:ما العقل؟فقال:"أن يغلب حلمك جهلك،وهواك"ا.هـ.انظر:"العقل وفضله"ص6لابن أبي الدنيا.
وسئل أعرابي:"أي منافع العقل أعظم؟فقال:"اجتناب الذنوب".انظر:"العقل وفضله"ص6لابن أبي الدنيا.

والحمدلله...

ابو فارس الفهري
11-02-2008, 04:35 AM
عز الله انك جمعت جميع معاني العقل

محمد آل غانم
11-02-2008, 04:47 AM
الله يبيض وجهك

ما قصرت على ماكتبت

حسين أبوعيبه
11-02-2008, 06:24 AM
السلام عليكم ورحمة الله

جمّل الله حالك

على هذا الموضوع الطيب

تحياتي

صالح بن ناعمه
11-02-2008, 08:31 AM
يعطيك العافيه على هذا

الموضوع المميز

أبن جفشان
14-02-2008, 12:47 AM
لاهنـــــــــــــــت

وبيض الله وجهك

مقبل السحيمي
15-02-2008, 01:15 AM
أحسن الله إليك أخي الحبيب

وجعلها الله في ميزان حسناتك

عبدالله آل مسعود القحطاني
16-02-2008, 02:14 PM
الإخوة الفضلاء/جزاكم الله خيراً وشكراً على المرور...

ابو سعد القحطاني
16-02-2008, 06:43 PM
سم الله الرحمن الرحيم

أخي الحبيب
إستاذنا عبدالله آل مسعود

اسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيك الفردوس الآعلى وأن يبارك فيك حيثما كنت .

أخي الغالي

جميل ماتكتبه في موضوعك هذا عن العقل وانواعه اسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها ويجعلها في ميزان حسناتك .




فداك نفسي وابي وامي وقبيلتي والناس اجمعين يا رسول الله .

أخوك ابومصعب

مشاري بن نملان الحبابي
17-02-2008, 12:51 PM
لاهنت والله يعطيك العافية ...

عبدالله آل مسعود القحطاني
15-03-2008, 11:52 PM
جزاكم الله خيراً

حـمـد القحطاني
16-03-2008, 09:46 PM
جزاك الله خير