المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شياطين الشعراء


رعاد القحطاني
30-03-2006, 02:05 AM
اتسمت شخصية الشاعر بالغموض منذ أعمق عصور الأدب، ومما زاد من تكثيف تلك الصورة، الطبيعة التكوينية لهذا الفن الأدبي، وأمام ذلك الغموض، فُسرت الحالة الشعرية، بما هو أغمض، عندما افترضوا وجود قوى روحية غريبة تتصل بالشعراء. وشاعت بين العرب فكرة أن لكل شاعر شيطانًا يوحي إليه الشعر..
حتى نقلوا لنا أسماء غريبة لشياطين الشعراء، إذ كانوا يشعرون بالصلة الوثقى بين الكهانة والسحر والشعر وكانوا يعتقدون اعتقادًا جازمًا، أن الشياطين هي التي تلهمُ الشعراءَ ما يجري على ألسنتهم من أشعار، ويرجع ذلك إلى معتقد جاهلي لدى العرب في ارتباط الكهانة بالشعر، ولعل ذلك يفسر نفي صفة الشعر والسحر عن القرآن الكريم وعن النبي صلى الله عليه وسلَّم بشكل متلازم.
قالت العرب لشياطين الشعر مساكن في وادي عبقر، ووادي زرود ووادي الأرواح.. وقد خرجوا بذلك من أزمة الشعور بالعجز عن تفسير الظاهرة الشعرية، فسموا لكل شاعرٍ شيطانًا، لامرئ القيس: لافِطُ بن لاحظ، وللأعشى: مِسْحَل بن أثاثة، ولعبيد بن الأبرص: هبيد بن الصلادم، وللنابغة الذبياني: هاذر بن ماذر، وللكميت: مدرك بن واغم، ولبشر بن أبي خازم: هبيد، ولزهير بن أبي سلمى: زهير، ولبشار بن برد: شنقناق، ولطرفة: عنتر بن العجلان، ولقيس بن الخطيم: أبو الخطَّار، ولأبي نواس: حسين الدَّنَّان، ولأبي تمام: عتَّاب بن حبناء، وللبحتري: أبو الطبع، وللمتنبي: حارثة بن المُغَلِّس.
وقد قرأنا في تراثنا العربي كثيرًا من القصص التي تؤكد لنا وجود هذا الارتباط الوثيق بين الشعراء وشياطينهم؛ تناقلتها كتب التراث، حتى لتكاد تكون تلك القصص أشبه بأسطورة واحدة رُكبت بشكل أو آخر على كل شاعر بما يناسب مقاسه ومقاس شعره، فهل هي قصص أُريد بها تضخيم شأن بعض الشعراء، لدواعٍ عصبية أو عاطفية؟ أم أنها نُسِجَتْ حول هؤلاء الشعراء بقصد الحط من قدرهم الشعري لذات الدواعي؟ باعتبارهم مجرد ناقلين لشعر الشعراء من الشياطين؟! أم أن الأمر يعود إلى ارتباط الشعر بالسحر والكهانة، في المعتقد الجاهلي؟ إنني أعزو الأمر إلى هذه الأسباب مقرونة بغيرها من الدواعي التي قد نستنبط بعضها من سياقات القصص ونجهل أكثرها.
والغريب أننا نجد الشعراء أنفسهم يحاولون إقناعنا بارتباطهم بشياطينهم، ويروجون للوهم القائل بارتباطهم بالقوى غير المرئية، ويتباهون بتلك العلاقة، وذلك أنها تجعلهم في منزلة أعلى من سائر الناس، حتى ليزعم امرئ القيس أن الجن تخيره ما يشاء من شعرها:
تخيرني الجنَّ أشعارها
فما شئت من شعرهن اصطفيت
ويفتخر بتوابعه من الجنِّ، فيقول:
أنا الشاعر الموهوب حولي توابعي
من الجن تروي ما أقول وتعزفُ
وعلى هذا يفاخر الأعشى بوثاقة علاقته بشيطانه مِسْحَل ويمجِّده فيقول:
وَما كُنتُ ذا قولٍ وَلَكِن حَسِبتُني
إِذا مِسْحَل سَدّى لِيَ القَولَ أَنطِقُ
شَريكانِ فيما بَينَنا مِن هَوادَةٍ
صَفِيّانِ جِنِّيٌّ وَإِنسٌ مُوَفَّقُ
يَقولُ فَلا أَعيا لِشَيءٍ أَقولُهُ
كَفانِيَ لا عَيٌّ وَلا هُوَ أَخرَقُ
ويسميه الأعشى أخًا له،ويفديه بنفسه فيقول:
حَباني أَخي الجِنِّيُّ نَفسي فِداؤهُ
بِأَفيَحَ جَيّاشِ العَشِيّاتِ خِضرِمِ
ويقول:
دَعَوتُ خَليلي مِسْحَلًا وَدَعوا لَهُ
جَهَنّامَ جَدعًا لِلهَجينِ المُذَمَّمِ
وجهنام: شيطان شاعرٍ آخر.
وكذا حسان بن ثابت (رضي الله عنه) يدَّعي أن له جنيًا يلهمه الشعرَ فلا يحتاج إلى سرقة الشعر، بل إن شعرهم لا يشبه شعره، فشعره أمتن سبكًا وتحبيرًا فيقول:
لا أَسرِقُ الشُعَراءَ ما نَطَقوا
بَل لا يُوافِقُ شِعرَهُم شِعري
إِنّي أَبى لي ذَلِكُم حَسَبي
وَمَقالَةٌ كَمَقالِعِ الصَخرِ
وَأَخي مِنَ الجِنِّ البَصيرُ إِذا
حاكَ الكَلامَ بِأَحسَنَ الحَبرِ
ثم يبين حسان أن الأمر بينه وبين صاحبه من الجن شراكة في قول الشعر فيقول:
وَلي صاحِبٌ مِن بَني الشَيصَبانِ
فَطَورًا أَقولُ وَطَورًا هُوَه
والشيصبان من عظماء الجن بزعمهم..
ويشكو أبو عطاء السندي عجمةً ولثغة كانت في لسانه فلا يكاد يبين مع أنه شاعر مجيد، فيشكو حاله وعجزه عن إيصال بيانه للناس، بسبب هذه العجمة التي اشتكى منها حتى شيطانه فيقول:
أعوزتني الرواةُ يا ابن سليم
وأبى أن يقيم شعري لساني
وغلا بالذي أجمجمُ صدري
وشكاني من عجمتي شيطاني
فتمنيتُ أنني كنتُ بالشعرِ
فصيحًا وبانَ بعضُ بناني
وينسب إلى جرير قوله:
إني ليلقي عليَّ الشعرَ – مكتهلٌ-
من الشياطين إبليسُ الأباليسِ
ويمدح الفرزدق شعره من خلال مدحه شيطانه فيقول في قصيدة مدح بها أسد بن عبد الله القسري:
لَتَبلُغَن لأَبي الأَشبالِ مِدحَتُنا
مَن كانَ بِالغَورِ أَو مَروَي خُراسانا
كَأَنَّها الذَهَبُ العِقيانُ حَبّرها
لِسانُ أَشعَرِ أَهلِ الأَرضِ شَيطانا
ويجاوز الأمر ذلك إلى ما يُسمى بوحدة الشيطان بين شاعرين، وهذا ما زعمه الفرزدق في غير موضع، حينما يقول: «شيطاني وشيطان جرير واحد» وذلك حينما يقول بيتًا من الشعر ثم يتوقع أن يهجوه به جرير، ودون أن يكون هناك تواصلٌ بين الشاعرين، ومن ذلك قول جرير:
بِسَيفِ أَبي رَغوانَ سَيفِ مُجاشِعٍ
ضَرَبتَ وَلَم تَضرِب بِسَيفِ اِبنِ ظالِمِ
وقد توقع الفرزدق أن يهجوه جرير بقصيدة يضمنها هذا البيت، بحجة أن شيطانهما واحد، وذلك عندما ضرب الفرزدق بسيف فنبا وارتعشت يده، وهذا ما حدث بالفعل.
وفي قصة أخرى روي أن الفرزدق نزل بقوم من العرب فأكرموه وأحسنوا قراه. فلما كان في الليل دب إلى جارية منهم فراودها عن نفسها، فصاحت، فتبادر القوم إليها، فأنقذوها منه ولاموه على فعلته. فجعل يتفكر ويهيم، فقال له صاحب البيت: أتحب أن أزوجك من هذه الجارية؟ قال: لا والله وما ذلك بي. ولكن كأني بابن المراغة (يقصد جريرًا) قد بلغه هذا الخبر فقال:
وَكُنتَ إِذا حَلَلتَ بِدارِ قَومٍ
رَحَلتَ بِخِزيَةٍ وَتَرَكتَ عارا
فقال الرجل: لعله لايفطن لهذا. قال: عسى أن يكون ذاك. قال: فوالله ما هو إلا وقت يسير حتى مر بنا راكب ينشد هذا البيت. فسألوه عنه. فأنشدهم قصيدة لجرير فيها هذا البيت بعينه.
وهناك من الشعراء من يفاخر نظراءه بعظم شأن شيطانه برغم حداثة سنه هو؛ فيقول:
إني وإن كنت صغير السنِّ
وكان في العين نبوُّ عني
فإن شيطاني كبير الجن
يذهب في الأشعار كل فَنِّ
ولا يستطيع أحدٌ أن يعدَّ حديث الشعراء عن شياطينهم شاهدَ عدلٍ على وجود هؤلاء القرناء، ولكن يأتي ذكرهم على ألسنة الشعراء في معرض المباهاة، ولعلهم في أحسن أحوالهم يعنون بذلك قوة الإلهام والملكة، لا شياطين حقيقة، فلو أخذنا بتلك الأقوال مثلًا، فعلينا أن نقول: إن جميع شياطين الشعراء إناث، ما عدا شيطان أبي النجم العجلي لأنه صرح بذلك في شعره، حين قال:
إِنّي وَكُلُّ شاعِرٍ مِنَ البَشَرْ
شَيطانُهُ أُنثَى وَشَيطاني ذَكَرْ
فَما رَآني شاعِرٌ إِلا اِستَتَرْ
فِعلَ نُجومِ اللَيلِ عايَنَّ القَمَرْ
وهذا يخالف سائر القصص التي يدعي فيها الشعراء والرواة أن شياطين الشعراء ذكور، وليس ذلك أمرًا مستغربًا على ذكورية البيئة الشعرية العربية، فهل يمكن أن يكون شياطين الشعر شيئًا غير الرمز على امتلاك ناصية القول؟! أو أنهم يتوهمون ذلك ويصدقونه حقيقة، توحيه إليهم عقولهم الباطنة، فمن المعروف أن الأماكن التي تسودها الوحشة، ويسيطر على المرء فيها الخوف، تتراءى له فيها تصورات مختلفة، وربما قام العقل الباطن بتخييل من يلقن الشاعرَ الشعرَ، أو أن بعضهم كان يعاني حالة من عدم التوازن النفسي، فيتهيأ له أن يتحدث إلى الأشباح، وقد تلقف الرواة هذه القصائد والقصص، وتزيدوا عليها، وجعلوها نواة لقصص حاكوها حول شياطين الشعر، ليتحول هذا الرمز الدال على الملكة الشعرية أسطورةً، ثم تكرَّست هذه الأسطورة لتتحول اعتقادًا جازمًا، يدعيها كل شاعر لنفسه، وعوضَ أن يمدح نفسه يمدح شيطانه ليعلي بذلك من منزلة شعره، أو يمدح نفسه على لسان شيطانه، أو يفعل ذلك الرواة تعظيمًا لشاعر، أو حطًا من قدره، لانتماء قبلي، أو عصبية، أو عاطفة، حتى لربما حوربت القبيلة بالحط من منزلة شعرائها، أو نسبة شعرهم إلى الشياطين..
وكم يبدو واضحًا قصد التعظيم لشأن الأعشى، في القصة التي رويت عن جرير بن عبدالله البجلي أنه أتى في بعض أسفاره الماء فإذا قومٌ مشوهون فقعد، يقول: «فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشدُّ تشويهًامنهم فقالوا: هذا شاعرهم. فقالوا له يا فلان؛ أنشد هذا فإنه ضيف؛ فأنشد:
«ودِّع هريرة إن الركبَ مرتحلُ»
فلا والله ما خرم منها بيتًا واحدًا، حتى انتهى إلى هذا البيت:
تسمعُ للحلْيِ وسواسًا إذا انصرفتْ
كما استعانَ بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ
فأعجب به. فقلتُ: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا. قلتُ: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها عامًا أول بنجران! قال: فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه، وأنا مِسْحَل صاحبه، ما ضاع شعرُ شاعرٍ وضعه عند ميمون ابن قيس!».
ويعمل الرواة على تأكيد هذه القصص بأن يورِدوا بعضًا منها على لسان الشاعر نفسه، فنقرأ قصة لقاء الأعشى بشيطانه مِسْحَل بن أثاثة التي يرويها الأعشى فيقول: «خرجتُ أريدُ قيس بن معد يكرب بحضرموت، فضللتُ في أوائل أرض اليمن؛ لأني لم أكن سلكتُ ذلك الطريق قبلُ، فأصابني مطرٌ، فرميتُ ببصري أطلبُ مكانًا ألجأُ إليه، فوقعتْ عيني على خباء من شعر، فقصدتُ نحوه، وإذا أنا بشيخ على باب الخباء، فسلمتُ عليه، فردَّ علي السلام، وأدخلَ ناقتي خباءً آخر كان بجانب البيت، فحططتُ رحلي وجلستُ، فقال من أنتَ؟ وإلى أين تقصد؟ قلتُ أنا الأعشى، أقصدُ قيس بن معد يكرب. قال: حياك الله! أظنُّك امتدحتَه بشعر؟ قلتُ: نعم، قال: فأنشدنيه، فابتدأتُ مطلع القصيدة:
رَحَلَت سُمَيَّةُ غُدوَةً أَجمالَها
غَضبى عَلَيكَ فَما تَقولُ بَدا لَها
فلما أنشدته هذا المطلع قال: حسبُك! أهذه القصيدة لك؟ قلتُ: نعم، قال: من سمية التي تنسُبُ بها؟ قلت: لا أعرفها، وإنما هو اسمٌ أُلقي في روعي؛ فنادى: يا سمية اخرجي، وإذا جارية قد خرجتْ، فوقفتْ وقالتْ: ما تريدُ يا أبتِ؟ قال: أنشدي عمكِ قصيدتي التي مدحتُ بها قيس بن معد يكرب، ونسبْتُ بك في أولها، فاندفعتْ تُنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفًا، فلما أتمَّتها قال: انصرفي، ثم قال: هل قلتَ شيئًا غير ذلك؟ قلتُ: نعم، كان بيني وبين ابن عمٍ لي يقال له يزيد بن مسهر، ما يكون بين بني العم، فهجاني وهجوته فأفحمته. قال: ماذا قلتَ فيه؟ قال: قلتُ:
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ
وَهَل تُطيقُ وَداعًا أَيُّها الرَجُلُ!
فلما أنشدته البيت الأول قال: حسبك! من هريرة هذه التي نسبتَ بها؟ قلتُ: لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها؛ فنادى: يا هريرة؛ فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجتْ، فقال: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوتُ بها يزيد بن مسهر، فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفًا، فَسُقِط في يدي وتحيّرتُ وتغشتني رعدة.
فلما رأى ما نزل بي قال: ليُفْرِخْ رَوْعُكَ يا أبا بصير؛ أنا هاجسك مِسْحَل بن أثاثة، الذي ألقى على لسانك الشعر.
ويمكن القارئ أن يستشف قصد انتقاص عبيد بن الأبرص من خلال قول شيطانه (هبيد): «لولا هبيد ما قال عبيد» فقد أورد راوٍ أنه لقيه في فلاة، وبعد أن دار بينهما حديث قال له: «أتروي شيئًا من أشعار العرب ؟ فقال: نعم، أروي وأقول قولًا فائقًا مبرّزًا، فقلتُ: فأرني من قولك ما أحببت؛ فأنشأ يقول:
طافَ الخَيالُ عَلَينا لَيلَةَ الوادي
لآلِ أَسماءَ لَم يُلمِم لِميعادِ
أنّى اهتَدَيتَ لِرَكبٍ طالَ سَيرُهُمُ
في سَبسَبٍ بَينَ دَكداكٍ وَأَعقادِ
فلما فرغ من إنشاده قال الراوي: هذا الشعر لعبيد بن الأبرص الأسدي، فقال: ومن عبيد لولا هبيد! فقلتُ: ومن هبيد؟ فأنشأ يقول:
أنا ابن الصلادم أُدعى الهبيد
حبوتُ القوافي قَرْمَي أسدْ
عبيدًا حبوتُ بمأثورةٍ
وأنطقتُ بِشْرًا على غير كدْ
ولاقى بمُدرك رهطُ الكميت
ملاذًا عزيزًا ومجدًا وجدْ
منحناهم الشعر عن قدرةٍ
فهل تشكر اليومَ هذا معد
فسأله عن (مُدرك) الذي ذكره في الأبيات فقال: هو مدرك بن واغم صاحب الكميت، وهو ابن عمي، ثم يقول (هبيد) وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن.
ويزعم الراوي أن (هبيدًا) قدَّم له لبن ظبي في إناء، فما استطاع شربه لرائحته الشنيعة، ثم انصرف فناداه من خلفه قائلًا: أما إنك لو شربت اللبن لأصبحتَ أشعر القوم.
قال الراوي: فندمتُ على أني لم أشرب اللبن على ما كان من رائحته، وأنشأتُ أقول في طريقي:
أسفتُ على عُسِّ الهبيد وشربه
لقد حرمتنيه صروف المقادرِ
ولو أنني إذ ذاك كنتُ شربته
لأصبحتُ في قومي لهم خير شاعرِ
والعسُّ: الإناء
ليصبح عبيد بمقتضى هذه القصة مجرد مرددٍ لما يلقنه شيطانه (هبيد) وهذا انتقاص لعبيد بن الأبرص، ليس هذا فحسب بل تشير القصة أيضًا إلى أن هبيدًا هذا منح أيضًا «لبشر» منطقَ الشعر دون كدٍّ ولا جهد، وكذا نسب شعر الكميت إلى شيطان آخر اسمه (مُدرك) الذي لقى به الكميت وقومه ملاذا عزيزًا ومجدًا، ثم يمتن بذلك على القبيلة، بأسرها، وهنا تفوح رائحة العصبية، فليس أشخاص الشعراء المقصود هنا بالانتقاص وحدهم بل والقبيلة التي ينتمون إليها بأسرها..
ونحو هذه القصة نقرأ قصة عن شيطان امرئ القيس حين التقاه أحد الرواة فقال له: أتروي من أشعار العرب شيئًا؟ قال نعم، وأقول، فقال له الراوي أنشدني، فأنشده قولَ امرئ القيس:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
فلما فرغ قال له الراوي: هذا لامرئ القيس، قال: لستُ أولَ من كُفِر نعمةً أسداها! أنا والله منحته ما أعجبك منه! قال الراوي: فما اسمك؟ قال: لافظ بن لاحظ.
ثم يخوض الراوي معه في حديث طويل، ويسأله: من أشعر العرب؟ فأنشأ يقول:
ذهبَ ابن حجرٍ بالقريض وقوله
ولقد أجاد فما يُعادُ زيادُ
لله هاذر إذ يجود بقوله
إن ابن ماهر بعدها لجوادُ
فقال الراوي: من هاذر؟ قال: صاحب زياد الذبياني(يعني النابغة) وهو أشعر الجن.
وكذا عن شيطان زهير ابن أبي سلمى ردد الرواة قصةً عن حمزة الزيات: أنه كان في سفر فضلَّت راحلته، فخرج في طلبها، فأمسكه اثنان يحس بهما ويسمع كلامهما ولا يراهما، فأخذاه إلى شيخ حسن الشيبة قاعدٍ على تلعة، (مرتفع من الأرض) فحاوره، ثم سأله أتقول الشعر؟ قال: لا! قال: أفترويه؟ قال:نعم! قال: هاته، فأنشده حمزة الزيات قصيدة:
أمِن أُمِّ أوفى دمنةٌ لم تَكَّلمِ
بحومانة الدَّرَّاجِ فالمُتَثَلِّمِ
فقال: لمن هذه؟ قلتُ: لزهير بن أبي سلمى! قال: الجني؟ قلتُ: بل الإنسي! مرارًا.
فرفع رأسه إلى قومٍ عنده، فأُتي بشيخ، فقال له: يا زهير! قال: لبيك! قال: «أمن أم أوفى» لمن؟ قال: لي! قال: إن حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى الإنسي، قال: صدق هو، وصدقتَ أنت.

عبدالله المهداني
30-03-2006, 04:09 AM
لاهنت على هذا المقال الجيد

محمد الحياني
30-03-2006, 07:13 AM
الله يعيطك العافية اخوي الغالي

رعاد القحطاني


اتقنت الاختيار وموضوعك قيم جداً


لاهنت