اتباع الهوى
محمد بن عبد السلام الأنصاري
خلق الله تعالى الإنسان ليكون عبداً له وحده، متجرداً للحق الذي نزل إليه، منقاداً للشريعة التي تهديه إلى أقوم سبيل، وأهدى طريق.
وقد جعل الله في الإنسان فطرة الانقياد والحاجة إلى إشباع غرائزه، وبين له الطرق الصحيحة لملأ هذه الغرائز، فإذا لم يسلك الإنسان الطريق الصحيح لإشباع هذه الغرائز انحاز ولا بد للطرق الضالة والملتوية لملئها، فمن لم يعبد الله تعالى وانقاد لشرعه عبد غيره قطعا، ومن لم يرض بالله رباً بحث عن رب يعبده، ومن أعرض عن شرع الله تعالى اتخذ شرعاً يُسيّر حياته وينظمها؛ وهذه فطرة أوجدها الله تعالى في قرارة الإنسان لنقصه وابتلاءه.
وإن من المعبودات التي يتخذها البشر عند إعراضهم عن شرع ربهم عبادتهم لأهوائهم، ولا أضر على العبد من اتخاذ الهوى معبوداً ودليلاً، فالانقياد للهوى يؤدي بالعبد إلى المهالك، والضياع في أودية الضلال، ويهوي به في مكان سحيق، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (الجاثـية:23).
وإذا اتبع العبد هواه صار أردى من البهائم التي عرفت مهمتها في هذه الحياة؛ كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43-44].
وشبه الله تعالى عابد الهوى بالكلب في أخس أوصافه حين قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176].
ومما ذم الله تعالى به الأمم السالفة من بني إسرائيل اتباعهم لأهوائهم، كما وصفهم الله تعالى بقوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]، وهو أيضا ما وصف به كفار قريش؛ حيث عابهم الله تعالى باتباعهم لأهوائهم؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (القصص:50).
وقد حذر الله عزوجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من اتباع أهواء أهل الكتاب حتى لا يكون من الظالمين، وهو توجيه لأمته من بعده؛ كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة: 145].
وحذر الله عز وجل نبيه داود عليه الصلاة والسلام من إتباع الهوى، لكون ذلك مما يضل العبد عن سبيل ربه؛ كما قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
ولخطورة الهوى على الإنسان كان من أخوف الناس منه الصالحين من عباده؛ ولذلك يحذرون منه أشد الحذر، كما روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/ 530) عن عليّ رضي اللّه عنه قال: «إنّ أخوف ما أتخوّف عليكم اثنتان: طول الأمل واتّباع الهوى. فأمّا طول الأمل فينسي الآخرة، وأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ. ألا وإنّ الدّنيا قد ولّت مدبرة والآخرة مقبلة ولكلّ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدّنيا، فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل».
وذكر ابن الجوزي رحمه الله في ذم الهوى (ص12): أن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: «ما ذكر اللّه عزّ وجلّ الهوى في موضع من كتاب إلّا ذمّه».
واتباع الهوى هو أصل كل معصية، ورأس كل فتنة، كما قال الحافظ ابن رجب رحمه اللّه تعالى: إنّ جميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النّفوس على محبّة اللّه ورسوله وقد وصف اللّه المشركين باتّباع الهوى في مواضع من كتابه، وكذلك البدع تنشأ من تقديم الهوى على الشّرع ولهذا يسمّى أهلها أهل الأهواء، ومن كان حبّه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب، فيجب عليه حينئذ التّوبة من ذلك، والرّجوع إلى اتّباع ما جاء به الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم من تقديم محبّة اللّه ورسوله وما فيه رضا اللّه ورسوله على هوى النّفس ومراداتها كلّها. جامع العلوم والحكم (366، 367).
وأصحاب الأهواء يتبعون ما وافق أهوائهم دائماً، ولا يلتفتون إلى غير ذلك، فإن جاء الحق موافقاً لأهوائهم اتبعوه، وإن جاء مخالفاً لأهوائهم رفضوه، ويوالون ويعادون من أجل أهوائهم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه اللّه تعالى: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله. منهاج السنة [5/255]
وقد ورد الأمر الشرعي أن يجعل المسلم هواه تابعاً ومنقاداً لأمر مبلغ الشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما روى ابن أبي عاصم في السنة وغيره بإسناد فيه مقال، عن عبد الله ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ".
وعصيان الهوى شاق على النفس؛ صعب المراس، وتحتاج النفس في ذلك إلى أطرها وحملها على الحق وإن كان ثقيلاً.
ولما كان للهوى تلك القوة على النفس، كان الجزاء كبيراً لمن حزم نفسه، ونهاها عن الهوى، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].
فليحذر المسلم هواه أشد الحذر، ويوطن نفسه على الإذعان للحق وإن خالف الهوى، وليدرك أن سعادته وفلاحه في مخالفة هواه.
وقد صدق هشام بن عبد الملك رحمه اللّه تعالى حين قال:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى كلّ ما فيه عليك مقال..
حملة السكينة
__________________
الدعوات الصالحة الصادقة من الوالدين مظنة الإجابة وأن تفتح لها أبواب السماء فاجعلوا دعواتكم لهم جزءاً من مشروع التربية والتوجيه والأمل الجميل