عرض مشاركة واحدة
قديم 14-10-2006, 02:13 AM
  #1
أبو عامرية
عضو
تاريخ التسجيل: Sep 2006
المشاركات: 31
أبو عامرية is on a distinguished road
افتراضي موطن نبي الله نوح عليه السلام ... وأين استقرت سفينته؟؟

موطن نبي الله نوح عليه السلام ... وأين استقرت سفينته؟؟

أعلم أن هذا المقال سيقرأه أناس مختلفوا الثقافات, فمن وجد فيما أكتب ما يخالف نصاً من كتاب الله, أو حديثاً صحيحاً فلينبهني إليه, وما سوى هذين المصدرين يؤخذ منه ويرد, والاختلاف في التاريخ لا يوهن أو يشكك في الاعتقاد الإيماني, ففي الأمر متسع إن شاء الله, وليعلم القارئ أن من صحابة رسول الله  ومن التابعين من كان يحدث عن أهل الكتاب في أمور كهذه دون تحرج, وفيما لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة, يعرف هذا من يقرأ كتب التفسير والتاريخ, وعن خبر نبي الله نوح عليه السلام أقول:
في رواية لعكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿ فلما جاء أمرنا وفار التنور﴾, قال بأرض الهند, أي كان ذلك بأرض الهند, فالهند على هذه الرواية موطن نبي الله نوح عليه السلام, وفي رواية عن مجاهد والشعبي أن التنور كان بناحية الكوفة, والمعروف أن بابل هي أقدم مدينة في ذلك الموضع, ومثل هذا القول في بعض كتب العهد القديم, ومؤرخو الفرس يذكرون أن نوحاً كان ببابل, مع أن بابل ما كانت إلاّ بعد نوح بزمن.
وبعض المجوس ينكر الطوفان لأنهم يزعمون أن الفرس كانوا قبل نوح عليه السلام, وأنهم لم يصبهم الطوفان, وبعضهم يرى أن الطوفان كان ببابل دون سائر الأرض.
وفي أساطير الهند عن الطوفان, أن مانو كان يغسل يديه على شاطئ البحر إذ وقعت سمكة في يده, وأدهشه أنها كلمته وطلبت إنقاذها من الهلاك, ووعدته أن تنقذه, ثم أنها أنبأته بخبر الطوفان, فجعلها في مرتبان بانتظار الموعد, فلما كبرت ألقاها في البحر, وحين بدأ الطوفان ربط السفينة في قرنها, وبذلك كانت نجاته ومن معه في الفلك, وهم يقدسون مانو ويقولون فيه ما قال النصارى في عيسى عليه السلام, ويهود في عزير, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, ويعتبرون مانو أباً للبشرية "باختصار".
أما عن نوح في الأساطير العربية فلم أجد غير ما رواه ابن شبة في تاريخ المدينة عن خبر تنازع مراد و ثقيف في وج أحد أودية الطائف, على يد رسول الله , ذلك أن وفد مراد لما قدم المدينة معلناً إسلامهم, قام خطيبهم ظبيان بن كدادة المرادي, فخطب خطبة, بدأها بذكر مسيرهم من الجوف باليمن, ثم استعرض حجته عن أحقيتهم بوج من ثقيف, ويهمنا هنا قوله: إن وجاً وشرفات الطائف كانت لبني مهلائيل بن قينان "قوم نوح", غرسوا وديانه, وذللوا خشانه, ورعوا قريانه, فلما عصوا الرحمن, هب عليهم الطوفان, فلم يبق منهم على ظهر الأرض إلا من كان منهم على سفينة نوح.
من هنا نلاحظ تعدد موطن نوح عليه السلام تبعاً لاختلاف الروايات, فإما أن يكون موطنه الهند أو بابل أو الطائف, ولو أن الحق يكون حيث تكون كثرة الآراء لسلمنا بقول من قال إن موطنه بابل, ولكن البحث عن الصواب يوجب النظر في جميع الروايات, إما أن تكون إحداها صواباً, أو أن تكون جميعها خاطئة.
أولاً: رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه, في قوله إن التنور كان بالهند, ذلك أن كتب العهد القديم تذكر أن موطن أبينا آدم كان بالهند, رُوي ذلك عن ابن اسحق, كما روي عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان بالهند وحج منها أربعين حجة, ولأن نوحاً أول الأنبياء بعد آدم, فالأولى أن يكون في الهند, ومثل هذا القول لا يمكن التسليم به, لأن سكنى آدم للهند أمر لم يثبت ثبوتاً قطعياً فكيف بعقبه, والعقل يرغب عن أن تكون الهند مهد البشرية, لأنها قطر موبوء كثيف الغابات كثير الفيضانات, وآدم أُهبط من الجنة بعد أن زال عنه لباسه وريشه, والله أحكم من أن ينزله موطناً شديد الحر أو شديد القر, أو مستنقعاً كثير الأوبئة, ولما يتسلح بالمعرفة والحيلة في دفع مضار المناخ و وخيم المستنقعات.
أما الأسطورة الهندية فإنها تنافي العقل, وتحتقر الإنسان, فهي ترفع مقام الحيوان عن مقامه, ناهيك عن كلام السمكة المتعذر, ولم يرد في كتاب الله, أن نوحاً كان يعرف منطق الحيوان, ومثل هذه الأسطورة لا يلتفت إليها, ولا يعول عليها في أمور يراد منها معرفة الحق.
أما الروايات التي ذكرت أن بابل كانت موطن نوح عليه السلام, فيمكن القول إنها تناقض ما روي في كتب العهد القديم وفي القرآن الكريم عن حضارة هذه المدينة.
ففي كتب العهد القديم أن أول من بناها أحد أحفاد سام بن نوح توجه إليها من الشام, وهذا يعني بداهة أن ذلك كان بعد الطوفان, وفي القرآن الكريم في خبر إبراهيم والنمرود, وقد أجمع المفسرون أن النمرود كان سريانياً وكان ببابل, وأصل كلمة بابل سرياني وتعني النهر, ومدينة بابل وجميع سواد الكوفة يقع في سهل خصيب قرب نهر الفرات وعلينا أن نذكر هذه الجغرافية, حتى يحين بيان جغرافية موطن نوح عليه السلام, ولقد ورد في سورة البقرة }وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين بابل هاروت وماروت{ - الآية.
فهل كان الملكان قبل نوح؟؟ بكل تأكيد الجواب لا, لأن الشياطين كانوا يعلمون الناس السحر, مُشاباً ببعض ما أنزل على الملكين, بلغة سريانية مفهومة لديهم, وكان ذلك بعد عهد نبي الله سليمان, وهذا يدل على قرب عهد الملكين من عهد تعليم الشياطين الناس السحر, مدعين أنه مما أنزل على الملكين, والناس لن تقبل على تعلم ما لا تفهم, ولا ما لا يعتقدون نفعه, ولهذا قدرتُ أن ما أنزل على الملكين كان مفهوماً لدى من يتعلمون السحر, في ذلك العهد, والشياطين حين كانوا يعلمون الناس السحر, كانوا يوهمونهم أن نبي الله سليمان بواسطته ملك ما ملك من الإنس والجن والطير والوحش, وذكر الملكين في هذه الآية يوحي أن الشياطين كانوا كذلك يوهمون الناس أن ما يعلمونهم هو ما أنزل على الملكين, مخالفين بذلك حقيقة أن ما يعلمونهم هو السحر, وكان ذلك بعد موت سليمان عليه السلام, وفهم الناس لما يتعلمونه من الشياطين دليل على قرب عهد الملكين منهم, وأن لدى الناس عنهم خبراً, وعلى هذا يكون السريانيون بعد نوح لا قبله, ويشهد لهذا الرأي خبر النمرود وأبينا إبراهيم عليه السلام.
أما خطبة ظبيان بن كدادة بين يدي رسول الله, وقوله إن وجاً كانت لبني مهلائيل ابن قينان, وإن الطوفان كان بجزيرة العرب, فقول لم أجده في غير رواية ابن شبة هذه, ومن يقول إن الطائف موطن نبي الله نوح, يستدل بسكوت رسول الله, فهم يقولون لو لم يكن ذلك كذلك لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول إن كان سكوت رسول الله يدل على مثل هذا الذي ذهبتم إليه, فماذا يمنع أن يقول قائل إنما سكت رسول الله لأنه لم يكن لديه خبر من السماء, ولم يرد أن يقول فيما لا يعلم.
وحتى نعرف أي المواضع المذكورة كان موطن نبي الله نوح, لابد من محاولة معرفة تضاريس موطن قوم نوح عليه السلام, ومضاهاتها بالأمكنة التي وردت في تلك الروايات.
لم يكن موطن قوم نوح صحراء مترامية الأطراف منبسطة, ولا كان سهلاً فسيحاً خصيباً, ولا هو سبخة نشاشة لا ينبت مرعاها, ولا هو أرض ذات أنهار وجنات عن يمين وشمال, بل يمكن وصفه في أمرين لا ثالث لهما, إما سهل بين جبلين أو تحفه الجبال من جميع أو بعض جهاته, وهي على مقربة منه, بمسافة يقطعها الراكض الفزع قبل أن يدركه الهلاك, أو أن يكون أرضاً جبلية, ذات أودية
وَ وهاد وجبال شامخة, تمثل فيه الجبال لأهله المنعة والملجأ, وكانت حياة قوم نوح تقوم على ما تقوم عليه الحياة المطرية, كالرعي وزراعة متواضعة, شأن الزراعة التي تقوم على المطر والسيول والآبار, وقد خلا ذلك الموطن من الأنهار.
وهذا الوصف نجده جلياً في سورتين من القرآن, في سورة نوح, وفي سورة هود, قال تعالى في سورة نوح: ﴿ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً  يرسل السماء عليكم مدراراً  ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهاراً﴾, ونستخلص من هذه الآيات ملاحظتين, الأولى أن الإرسال يكون عادةً بعد حبس, ووعد نوح لقومه بإرسال السماء إن هم استغفروا ربهم, يدل على احتباس المطر عنهم أو أن أرضهم كانت قليلة المطر, والثانية أن ليس بأرضهم نهر أو أنهار, ولا جنات ذات بال, وليس بقربهم أرض ذات أنهار وجنات, يبلغونها بالسفر اليسير والجهد القليل فما كان الله ليمنيهم بما في أيديهم, ولا بما يبلغونه بيسير المشقة.
أما كون موطنهم ذا جبال شامخة, فمن قوله تعالى في سورة هود: ﴿ وهي تجري بهم في موج كالجبال و نادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين  قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ﴾, ونستخلص من هذه الآية ثلاث ملاحظات.
الأولى أن جبالهم كانت شاهقة, فحين كانت السفينة تجري في موج كالجبال قال ابن نوح لأبيه ﴿ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ﴾ فشموخ الجبال أوحى له بهذا القياس العقلي, فتوهم فيها النجاة والمنعة, وفي قول نوح  - لا عاصم اليوم من أمر الله – تلميح إلى أن ما يراه من منعة الجبال لن يعصمه من أمر الله, لأن من وضع النواميس يملك وحده خرقها, والثانية تعدد الجبال, نأخذه من قول الابن (إلى جبل)
ولو كان جبلاً واحداً لقال: سآوي إلى الجبل, والثالثة قرب الجبال من مساكنهم وكثرتها, لأن ابن نوح أزمع الالتجاء إلى أحدها حال إحداق الخطر, وهذا يؤكد أن موطنهم أرض جبلية.
ومن هذا الوصف الجغرافي نستطيع رد الرواية التي تقول إن نوحاً كان بناحية الكوفة, وتلك التي تقول كان ببابل لسببين, الأول: أن سواد الكوفة سهل لا جبال فيه, وما كانت حدائق بابل المعلقة إلاّ لهذا السبب.
والثاني جريان نهرين عظيمين في ذلك السهل (دجلة والفرات) وقد يقول متقول لعل تضاريس سواد الكوفة لم تكن على ما هي عليه الآن؟؟, وأن النهرين لم يكونا قد جريا بتلك الناحية؟؟, ومثل هذا القول مبني على الظن والتخمين, لا يؤخذ به حتى يقوم دليل على صحته, نصدقه تصديقنا بتعاقب الليل والنهار.
وكذلك يمكن رد قول من قال إن نوحاً عليه السلام كان بالهند, لأن الهند تشتهر بكثرة أنهارها, خاصة كلما اقتربنا من جبال هملايا, ولو افترضنا أن قوم نوح كانوا بالهند في أرض لا أنهار فيها, لما حال دون تحولهم إلى الأنهار الجارية حائل؟؟, والله جل جلاله ما كان ليمنيهم بالأنهار إلاّ لأنها ليست بأرضهم.
ومن خلال هذا الرأي وذلك التوضيح, تبقى تضاريس الطائف أقرب إلى ما ورد في القرآن عن موطن قوم نوح, وأنا أذهب إلى أن مهد البشرية الأول تهامة ابتداءً من مكة, ولأنه لم يعد أمامنا موطن لا طعن فيه, فترجيح الطائف, أو جبالها الأقرب إلى سهل تهامة أمر لا خيار سواه, حتى يأتي من يفترض موطناً آخر
وتوافق تضاريسه ما ورد في القرآن الكريم عن أرض نوح, ويقدم أدلة لا تقبل الشك.
ومما يدعم الاعتقاد بالطائف كموطن لقوم نوح, أن جزيرة العرب أرض لا أنهار فيها, وقد يستدرك أحدهم فيقول ثبت عن رسول الله  في دلائل القيامة أنه قال: لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب أنهاراً وجنات كما كانت, وأقول لمثل هذا: الرسول  لا ينطق عن الهوى, ولكن هل لديك دليل قاطع أنها كانت كذلك زمن نوح لا قبله أو بعده؟؟, من كان لديه دليل على هذا الحصر من كتاب أو سنة فليتفضل.
نأتي بعد هذا إلى ذكر الجبل الذي استقرت عليه السفينة بعد الطوفان, أين هو؟ اتفقت روايات السلف الصالح أن السفينة استقرت على جبل الجودي بأرض الموصل, وأن نوحاً عليه السلام بنى مدينة في أرض الجزيرة الفراتية سماها مدينة الثمانين, لأن بيوتها كانت على عدد من كان معه في السفينة, وأن هذه المدينة ظلت إلى عهد صحابة رسول الله , وتسمى سوق الثمانين, وبقاء مدينة بناها نوح  إلى زمن صحابة رسول الله  أمر محال, وهذا ما رواه أهل الكتاب دون زيادة أو نقصان, إلاّ أن اسم الجودي في سفر التكوين "أراراط", وسلفنا الصالح ذهبوا إلى هذا الرأي لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ واستوت على الجودي ﴾, وفي جبال الموصل جبل بهذا الاسم, متصل بجبال أرمينية, ولموافقة هذا الاسم للمكان المذكور لدى أهل الكتاب ذهب سلفنا إلى هذا المعنى, لعدم تعارض ما يقوله أهل الكتاب لما تأولوه من أن الجودي الوارد ذكره في الآية جبل بعينه يحمل اسم الجودي, على أننا لو راجعنا لغة العرب, لوجدنا أن الجودي اسم من أسماء الجبل "الجبل والطود والجودي والعلم", فالجبل اسم عام, والأسماء الأخرى تطلق على الجبل حسب شكله وحجمه وموقعه, وقد استدل من قال إن الجودي هو الجبل ببيت زيد بن عمرو بن نفيل:

سبحانه ثم سبحانا نعوذ به *********** وقبلنا سبح الجودي والجَمَدُ

وابن منظور ينسب هذا البيت لأمية بن الصلت, وباعتبار هذا المعنى يصبح احتمال أن يكون الجودي المذكور في الآية جبلاً آخر غير الذي في الموصل أمراً وارداً واحتمالاً قائماً, وفي مثل هذه الحال لابد تفسير الآية مع الأخذ بعين الاعتبار هذا الاحتمال, إلاّ أن يثبت بالدليل أن الجودي المذكور في الآية هو عين ما ذهب إليه السلف الصالح, وعلى من كان مثلي يرى عدم صحة ما ذهب إليه السلف, القول بدليل مقنع في الموضع الذي استقرت فيه سفينة نوح على وجه الدقة, وان يرد أدلة السلف بمنطق وحجة, وحتى نأتي بمثل ذلك لابد من الاسترشاد بكتاب الله, لعلنا نجد ما يشير إلى هذا الجبل ولو تلميحاً أو استنباطاً لمعنى غامض.
في سورة النور تستوقفنا هذه الآية ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾, هذه سنة الله لا يمكن استثناء من آمن مع نوح منها, وفي سورة نوح وعد الله قومه إن هم استغفروا وآمنوا وأنابوا بمثل هذا الاستخلاف وفوقه كثرة الأموال قال تعالى: ﴿ يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ﴾, وإذا كان حُرم الكافرون ذلك, ودمرهم الله بالطوفان, فالوعد قائم لمن آمن والله لا يخلف الميعاد, فهي كائنة لهم ما استقاموا على شرع الله, ولا تزول النعم إلاّ بالمعاصي.
وفي سورة هود قال عز من قائل يخاطب نوحاً عليه السلام: ﴿ اهبط بسلام منا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾, وكلمة بسلام تعني الأمن والسلامة معاً, وكلمة بركات تعني نعماً ثابتة لا تزول ما استقاموا على شرع الله, مأخوذ معناها من بروك الجمل, والهبوط يعني الهبوط من السفينة والجبل وأخبر سبحانه أن سيكون أمم ممن معه, يكون عليهم سلام من الله وأمن ونعم كثيرة ثابتة, وهذا يعني سيرهم على المنهاج الإلهي, ثم يكون منهم أمم تحيد عن السراط فيمتعهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
والله سبحانه وعد نوحاً بهذا حيث أهبطه بعد عناء الطوفان, لأن النقلة و الترحال لا تكون إلاّ لطلب العيش أو بسبب الخوف, أو بأمر من الله, والله قد ضمن بنص هذه الآية لمن كان في السفينة, السلام المنافي للخوف, والبركات المنافية للجوع, وكل هذه النعم مدعاة للاستقرار, وليس في كتاب الله ولا لدى أهل الكتاب ما يدل على أن الله أمر نوحاً بالانتقال بعد الهبوط من السفينة وانحسار الطوفان, وفي وجود الأنهار والجنات وكثرة النسل ووفرة النعم والاستقرار حيث اهبطوا آمنين من كل خوف, أقول مع هذا كله لابد أن تقوم حضارة ذات شأن, حتى يتغير حالهم ويستوجبون نقمة الله.
فإذا عرفنا أين قامت هذه الحضارة, وأن أهلها هم أصحاب السفينة, نجزم عندئذٍ بالمكان الذي استقرت عليه السفينة.
وليس بعد كتاب الله من مصدر لأخبار الأمم البائدة, وما يكون لنا أن نعدل به سواه, إلاّ فيما لم يرد عنه ذكر في كتاب الله, فيه ذكر من قبلنا ومن بعدنا, وأخباره لا يأتيها الباطل, وهي حجة فوق كل حجة, وهو أحسن القصص, وأصدق القصص
قال تعالى في سورة الأعراف على لسان هود عليه السلام يخاطب عاداً: ﴿ أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون﴾, ولم يمتن الله على قوم بخلافة قوم نوح غير عاد, فهل بعد هذا نميل إلى تأكيد سواه؟؟, إن عاداً دون شك هم من عقب من أنجاهم الله في السفينة, والله أنجزلهم وعده حيث أًُهبطوا من السفينة, وقد يقول قائل إن الاستخلاف في الأرض لا يقتضي أن يكون الخليفة من جنس المخلوف, بله أن يكون من قبيله أو عقبه, فقد سمى الله سبحانه وتعالى آدم خليفة, وما آدم إلاّ من تراب من غير أب أو أم!!, وأقول: إن الله جل ذكره أخبر أن سيكون ممن على السفينة أمم وقال عن عاد أنه عز وجل جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح, فلا مجال للتأويل, لأن وعد الله لمن كان على السفينة أن يكون منهم أمم هو الاستخلاف بعينه, وما كان الله ليمتن على عاد لو لم يكونوا هم الأمم التي وعدها بالخلافة, كي لا يقولوا إنما كان ذلك لأمم غيرنا, سيما والكفار أهل لجج, أو يقولوا لسنا وحدنا من خلف قوم نوح معاذ الله أن يعتري حجج الله على خلقه الوهن, أو أن يكون فيها مطعن, فلله الحجة البالغة.
وحتى نزيد الأمر تأكيداً ووضوحاً, لنصل إلى قناعة أن عاداً هم الأمم التي قال عنها عز من قائل مخاطباً نبيه نوحاً: ﴿ وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ﴾
لابد لنا من إلقاء نظرة على معاش عاد وآلاء الله عليهم, هل تتوافق تلك النعم مع ما وعد الله به قوم نوح إن هم آمنوا؟؟؟, وهل تتوافق كذلك مع وعد الله لأصحاب السفينة؟؟, ولن يخلف الله وعده, إن الله لا يخلف الميعاد, قال تعالى في سورة الشعراء والخطاب لعاد: ﴿ واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين  وجنات وعيون ﴾, ألا يقابل هذا وعد الله لقوم نوح: ﴿ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً  يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ﴾ نوح.
وقال عز من قائل عن هود  في سورة المؤمنون: ﴿ قال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ﴾, و على لسانه  في سورة الشعراء: ﴿ أتبنون بكل ريع آية تعبثون  وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ﴾, والآيتان الآنفتان توضحان المستوى المعيشي المترف لعاد, وهذا يقابل وعد الله لمن كان في الفلك: ﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ﴾ الآية, وقد سبقت الإشارة إلى أن البركات تعني النعم الثابتة, نستطيع القول بعد هذا العرض أن عاداً خلفاء قوم نوح, وهم منهم وهذا أمر يجب أن لا نماري فيه, وأن السفينة استقرت على جبل بالقرب من إرم ذات العماد, حاضرة عاد, تصديقاً لوعده جلّ جلاله لهم بالسلم والنعم حيث استقرت السفينة, إذ لا يعقل أن تستقر السفينة في الموصل, ثم يكون عقب قوم نوح على بعد خمسة آلاف كيلومتر عنهم, والله قد وعدهم بما أسلفت, ولكن هل يمكن تحديد مدينة إرم على وجه الدقة, أو بدرجة قريبة جداً من الدقة, حتى نستطيع تحديد الجودي
الذي استقرت عليه السفينة, أظن أنه يمكن ذلك!!, مع الأخذ بعين الاعتبار أن كثيراً من البعثات الأثرية نقبت في جبل الجودي بالموصل وفي الهند, لأكثر من ثلاثين سنة, ولم تعثر على أي أثر لسفينة نوح, ألا يكفي هذا؟!!, الأمر الثاني أن عاداً لم يرد لها ذكر في كتب العهد القديم, وهذا ما جعلهم يتوهمون أن السفينة استقرت على جودي الموصل, والأمر الثالث أننا إذا أخذنا بقول أهل الكتاب "يهود" أن نوحاً كان في بابل, فإن صنعه للسفينة لا يكون موضعاً للسخرية, في قرية قرب نهر!!, يعرف أهلها ركوب النهر, بل لعلهم يمخرونه بالليل والنهار, وأهل الأنهار أكثر الناس خوفاً من الفيضان, لأنهم ينكبون به في كل عام مرة أو مرتين, فما بالك لو خوفوا بالطوفان!!, ألن يثير ذلك رعبهم؟, وقد عرفوا الفيضانات وأخطارها, وهنا أسأل أليس صنع السفينة في بلد ليست جوار بحر ولا نهر كالطائف, في قوم ليس في معاشهم ركوب البحار أدعى للسخرية, أم صنعها في بلدة جوار نهر أو بحر, في منخفض من الأرض, إن هاج البحر أغرقه!, وإن فاض النهر غمره, وإن أمطرت السماء تحول إلى غدران وأوحال, ولعلهم ينكبون بالفيضان في كل عام مرة أو مرتين؟ أسكان الشطئآن هؤلاء أولى بالتكذيب؟ أم سكان جبال جرداء شاهقة, في أرض لا أنهار فيها, وجبالهم مزالق ومنحدرات لو سقطت قطرة من السماء ما استقرت إلاّ في غوري تهامة, وهي من العلو بحيث ينعقد السحاب على ذراها, ينظر أهلها إلى الغور السحيق فتوحي لهم عقولهم أن جبالهم من المنعة بحيث لا يغمرها بحر الظلمات؟, إن الأسطورة العربية عن موطن نبي الله نوح أقرب للتصديق ومقنعة للعقل, ﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ﴾ هود.
يا معشر المؤرخين, لقد أكثرتم النقل, على حساب المنطق والعقل.
ونعود إلى ذكر قوم هود, وهنا أنوه أن كتب العهد القديم لم تذكر شيئاً عن هلاك عاد ولهذا السبب لم ترد في كتب مؤرخينا مفصلة, بل جاءت أخبارهم موجزة أيما إيجاز لأن مؤرخينا السلف رحمهم الله عنوا بالأخذ من كتب العهد القديم, وتابعهم الخلف حذو القذة بالقذة, اللهم إلاّ ما وجد متناثراً في كتب التفسير أو في الكتب التي ألفت في قصص الأنبياء عليهم السلام, والمضحك أن يذكر البعض أن وفد عاد أقام بمكة لدى جد قريش!!, أي سفه هذا؟؟!.
وكتب التفسير يروي أصحابها عن سلفنا الصالح, وقد اختلفوا في تحديد حاضرة عاد اختلافاً بينا, فمنهم من قال: إنها في أبين, في الطرف الغربي من السهل المعروف ببلاد الشحر, ومنهم من قال في شمال حضرموت, بينها وبين رمال الربع الخالي, ومنهم من قال في بلاد مهرة, وفي بلاد مهرة قبر يزعمون انه لهود عليه السلام, وإذا كان ذلك القبر لنبي فالأولى أن يكون لنوح , أما هود فمات في غير حضرموت, لأنه أُمر بالخروج منها قبل أن يصبح العذاب قومه, وسمعت مؤخراً عن اكتشافات في يبرين, بين عمان والربع الخالي, يزعمون أنها حاضرة عاد, وكل هذه المواقع بعيدة عن حاضرة عاد, ولا تتفق مع صفة موقعها المنوه عنه في الكتاب والسنة, مما سأبينه إن شاء الله, وهدفي من تحديد إرم ذات العماد الوصول إلى الجودي الذي استقرت عليه السفينة, وحتى أصل إلى تحديد موقع حاضرة عاد لا بد من تعريف كلمة الأحقاف, فالحقف في الأصل تطلق على أصل الجبل وأصل الجدار, وفي لسان العرب وأصل الكثيب, ولا أظنه مصيباً من قال أصل الكثيب فمعظم الكثبان رملية, فلا أصل للكثيب, إنما الأصل لما انغرز منه جزء في باطن الأرض, وإذا استطال الكثيب واعوج قيل احقوقف الكثيب, ولا يقال في الكثيب إلاّ بهذا الشرط, وما كل الكثبان على هذه الهيئة, ومعظمها لا تكون كذلك, والاحقوقاف تعني الانحناء, فالجمل الخميص إذا تقوس ظهره قيل احقوقف البعير, وفي حديث الحج ثم مضى حتى كان بالانابة بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف, أي واقف منحني الظهر متقوس, وبعضهم يقول رابض منطو على نفسه, وأظن هذا القول خاطئاً, من هنا نلاحظ أن حصر الأحقاف في كثبان الرمال, فيه تعميم لا يراعي شرط الاستطالة والاعوجاج, وتخصيص يخرج أصل الجبل من هذه التسمية, وسنؤجل هذا القول لحين بيان تضاريس الجزء الجنوبي من جزيرة العرب, حتى إذا جئت على ذكر تضاريس حاضرة عاد كانت الصورة أقرب إلى الأذهان, وسيكون معنى الأحقاف الوارد في الآية أكثر وضوحاً.
في مقال للسلطان غالب القعيطي, في عدد جريدة الشرق الأوسط الاثنين الموافق 30/3/1992م ذكر تضاريس هذا الجزء الذي يشمل بلاد الشحر وحضرموت ومهرة, فوصفه على النحو التالي:
أولاً سهل ضيق من أبين غرباً إلى رأس الحد شرقاً, يدخل ضمن هذا التحديد بلاد مهرة, ويحد هذا السهل من الشمال جبال قاحلة, هي بداية حضرموت, وتتصل حضرموت بصحراء الربع الخالي, وتضاريس حضرموت عبارة عن جبال قاحلة قليلة الارتفاع, وأجوال ونجود, ترتفع "يقصد النجود" في بعض الأحيان إلى 8000قدم فوق سطح البحر, ويتقلص هذا الارتفاع حتى تلتحم بهضبة الصحراء "الربع الخالي".
وأقول: الأجوال في مقال السلطان غالب, جمع جول بفتح الجيم وضمها والجول كثيب رملي يتكون بفعل الريح السفياء, أقرب إلى الاستدارة, مأخوذ معناها من أجال الشيء أي جعله دائرياً, كأجال السهام بين القوم, وأجالوا الرأي فيما بينهم فالإجالة في الأصل الإدارة, ومنها سميت الصدرية التي تلبس فتحيط بالجسد مجولاً أو هي كثبان صغيرة تجول بها الريح هنا وهناك, لأن الجول بفتح الجيم وضمها تأتي بمعنى التراب والحصى الذي تجول به الريح على وجه الأرض, ولا أظن السلطان يقصد بالأجوال جنبات الأودية, فجالا الوادي جانباه, لأنه عاد فوصف مابين النجود من أودية وذكر جهاتها.
ولم يبين السلطان غالب طبيعة السهل الضيق بين البحر وجبال حضرموت وأظن أنه أرض صحراوية وحزون وحداب ضيقة, تتخلله أودية, تتشكل على جنباتها مساحات خضراء ضيقة, شأن سهل تهامة, ولقد أرفق السلطان صورة لشجرة, تلك الشجرة من أشجار تهامة, وكثير من أشجار ذلك السهل تنمو في تهامة مما يدل على تشابه المناخ.
أما النجود التي وردت في المقال سالف الذكر, فهي مرتفعات لها منحدرات تشبه منحدرات الجبال, فإذا صعدها السالك وجدها مستوية منبسطة لا قمم لها, فهي بين الجبال والهضاب, والعرب تسمى كل ما ارتفع من الأرض واستوى سطحه نجداً.
ثم يأتي السلطان إلى ذكر الأودية التي تتخلل تلك النجود والجبال, فيقول إن بعضها يجري "والأولى أن نقول تسيل" إلى الشمال, وأخرى تسيل إلى الجنوب وأودية تسيل إلى الشرق, وأودية يجري سيلها إلى الغرب, واتجاه سيول أودية حضرموت يهمنا في تحديد حاضرة عاد.
وخلاصة هذه التضاريس, رمال وجبال قليلة الارتفاع, ونجود يغلب على العقل أنها بقايا جبال تسطحت بعوامل التعرية, لأن منها ما يبلغ ارتفاعه ألفين وأربعمائة متر عن سطح البحر.
وقبل الخوض في تضاريس حاضرة عاد, نتساءل هنا عن الجبل الذي استقرت عليه السفينة, ونعود إلى قوله تعالى في سورة هود: ﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات﴾, الآية.
إذا كان السلام يعني الأمن والسلامة, ألا يعني ذلك بداهة سلامة الهبوط وسلامة الهبوط ألا تستوجب سهولة المنحدر؟؟ خاصة والقوم قد أرهقهم المكوث في السفينة, ثم لنتصور حجم السفينة!, بما حملت من أناس ودواب!!, ألا تحتاج إلى جبل مستو السطح حتى تستقر عليه؟, ويتحقق فيه استواؤها حال رسُوِّها, حسب وصف القرآن الكريم ﴿ واستوت على الجودي ﴾, أهذه النجود توافق هذه الغاية أم جبل الجودي بالموصل؟!, خاصة وجبال الموصل شاهقة وَحادة القمم, ذات منحدرات لو زلت بالمنحدر فيها قدمه لما استقر إلاّ في وهدة الوادي السحيقة بعد أن تتهشم أضلاعه!!.
قال تعالى في سورة الأحقاف: ﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألاّ تعبدوا إلاّ الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾, استكمالاً لمعنى الأحقاف, قال الخليل: الحقف الرمل العظيم المستطيل المعوج, وقال عطاء: الأحقاف رمال بلاد الشحر, وقال مقاتل: هي في اليمن في حضرموت, والمراد الأحقاف مكان بعينه في حضرموت, وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال, ولم تبلغ أن تكون جبالاً, وهذا يطابق وصف نجود حضرموت التي ورد ذكرها في مقال السلطان غالب السابق, وسبق القول إن منها ما يرتفع ألفين وأربعمائة متر فوق سطح البحر, وإن كنت أظن أن ارتفاعها أقل من ذلك بكثير.
وحتى نقترب أكثر من حاضرة عاد, نبين بعض معالمها, ليسهل علينا تحديد موقعها, وبمعرفة حاضرة عاد نعرف أين رست السفينة.
تقع حاضرة عاد على ملتقى أودية, أو جوار أودية متقاربة, يصلون إليها في غدوهم ورواحهم, وكانت مزارعهم تسقى من عيون في تلك الأودية, يرتفع منسوبها وينخفض تبعاً للسيول والأمطار, ولا ينفي ذلك أن تكون لهم مزارع تروى من السيول, وأخرى تسقى بماء المطر, ومن نافلة القول إن نبي الله هوداً أرسل إلى أهل تلك الحاضرة, شأن الرسل, والرسل لا يكونون إلاّ في الحواضر فيما أعلم, لتبعية البوادي والقرى للحواضر, تبعية معيشية وسياسية, وأهل القرى دائموا التردد على الحواضر لقضاء حوائجهم, وتبلغهم الرسالات تبعاً لذلك التردد, وما قلت إن حاضرة عاد تقع على ملتقى أودية, إلاّ لقوله تعالى: ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾, فهي أكثر من واد حسب هذا النص, وبحكم حياتهم الزراعية وتطلعهم للسماء, اكتسبوا خبرة تحديد مواقع القطر بالنظر إلى المخايل, وهم في ذلك أدق حدساً فيما يتعلق بأوديتهم لمعرفتهم بمآتي سيولها, وهذا الرأي نأخذه من قوله تعالى: ﴿ فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا﴾, والآية تحمل معنى الاستبشار بالمطر صراحة والاستبشار بالسيل ضمنياً, فالأخير تتضمنه كلمة "مستقبل أوديتهم", لأنه لا يلزم للاستبشار بالمطر استقبال العارض لأوديتهم, بل بتحركه صوبهم استقبل أوديتهم أو استدبرها, أو جاء من جهة ليس فيها استقبال للأودية أو استدبار, ولا شك أن أودية عاد باقية كما هي إلى يومنا هذا, لأن العذاب الذي أصابهم لم يغير تضاريس الأرض, كعذاب قوم لوط, الذي قلب عالي الأرض سافلها, فالله سبحانه قد استثنى مساكنهم من الدمار والزوال الناتج عن الريح العقيم, قال تعالى: ﴿ فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم﴾, فإذا كانت المساكن قد بقيت من بعدهم فالأودية من باب أولى, ولو دُفنت بعض أجزائها بفعل أتربة الريح فالسيول كفيلة بإزالة تلك الأتربة, وإعادة المجاري إلى طبيعتها, وأودية الجزء الجنوبي من جزيرة العرب متعددة, فعلى أيها كانت حاضرة عاد؟, وحتى نتعرف على تلك الأودية, لابد من أخذ حقيقة اختلاف جهات جريان سيول أودية الجزء الجنوبي في الاعتبار, فمنها ما يسيل شمالاً, ومنها ما يسيل جنوباً, وبعضها يسيل إلى جهة الغرب, وأخرى تسيل مشرقة, فلو عرفنا إلى أي جهة كانت تسيل أودية عاد سهل علينا تحديد موقع حاضرتهم, مع الإقرار بعدم وجود نص صريح الدلالة على مثل هذا, ولكن لن يحول ذلك بيننا وبين تلمس هذا المعنى من الدلالات التي بين أيدينا من الكتاب والسنة.
سأحاول ذلك وأقدم رأياً, للقارئ أن يراه خطأً يحتمل الصواب, أو صواباً يحتمل الخطأ, ولمن يرى أني مخطئ أن يرد علي, والأخوة الإسلامية توجب عليه الرد, لأن الدين النصيحة والمسلم أخو المسلم, وأتمنى أن يكون الرد لله, لا لمجرد المخالفة.
قال تعالى في سورة الحاقة: ﴿ وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية  سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية ﴾, وحتى يستقيم عدد الأيام إلى ثمانية أيام تامة, وسبع ليالٍ تامة غير منقوصة, لابد أن تكون الريح قد صبحتهم مع بواكير الشروق, لأنهم رأوها وظنوها مطراً, ولو جاءتهم ليلاً ما رأوها ولا قالوا هذا عارض ممطرنا, وتوقفَتْ مع إدبار نهار وإقبال ليل, لأن القول بتمام الأيام والليالي, يدخل ضمن التصديق بعددها, وهذا التصديق يدخل ضمن التصديق بخبر عاد, المذكور في كتاب الله وسنة رسوله .
وفي سورة الأحقاف, قال تعالى: ﴿ فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا ﴾, والعارض السحاب المركوم, إذا اعترض في الأفق, وأخيلت به السماء, وتيقن ذو الخبرة أنه ممطر, وأهل الخبرة يعرفون ذلك بعلامات تدل عليه كاسوداده أو اخضراره, والمسود أغزر مطراً, وليس العارض جهام السحاب الذي لا مطر فيه, وإن كان متراكماً, ومن هنا نعلم أن القوم رأوا الريح بما تحمل من أتربة معترضة في الأفق, مستقبل أوديتهم, وبدلائل يعرفونها توقعوا أن يمطرهم ذلك العارض, وذلك قبل أن ينتهي إليهم, إذْ لو انتهى إليهم لما وجدوا وقتاً للتمني, وفي هذا الموقف تهمنا رؤيتهم اليقينية للريح بما تحمل من أتربة وهي معترضة في الأفق في مثل ذلك الوقت الباكر من النهار, وهي رؤية لا يتمارون فيها, هنا يتبادر إلى الذهن سؤال, لو أن تلك الريح أو ذلك العارض كان معترضاً في الأفق الشرقي في تلك الساعات الأولى من النهار, أما كان يحجب عنهم أشعة الشمس؟؟, ولعلهم يتمارون ساعتئذٍ في شروق الشمس ذاته!!, إن لم يظنوا أن الوقت لا يزال ليلاً, بله رؤية العارض وتحديد موقعه "مستقبل أوديتهم", إن تلك الرؤية اليقينية, أفضل ما تكون إذا كان العارض في الأفق الغربي, ليعاكس أشعة الشمس, وهكذا كانت ريح عاد لقد خرجت إليهم من جهة الغرب, ويؤكد هذه الحقيقة حديث رواه الشيخان "متفق عليه", ولا أظن عالماً قال فيه كلمة, قال رسول الله : ÷ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ×, والدبور ريح غربية لا مطر فيها, لأن الرياح عند العرب أربع, القبول أو الصبا, وتهب من جهة المشرق, قيل سميت بذلك لأن النفس تقبلها, وقيل لأنها تستقبل باب الكعبة, والجنوب وتهب من جهة الجنوب, والشمال وتسمى أيضاً الجربياء لأنها تؤذي الحيوان الأجرب لبردها, والدبور تهب من المغرب, وقيل سميت بهذا الاسم لأنها تستدبر الكعبة, وعلى هذا تكون ريح عاد قد هبت عليهم من الجهة الغربية لموطنهم, وأنهم أول ما رأوها وظنوها عارضاً كانت مستعرضة في الأفق الغربي.
نعود إلى قوله تعالى: ﴿ فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم ﴾, وعن معنى مستقبل أوديتهم قال بعض المفسرين "متوجه إلى أوديتهم", وأقول إن توجهها إلى الأودية لا يكون استقبالاً لها, والعرب لا تقول للماشي استقبل الوادي إلاّ إذا سار فيه, معاكساً لجهة جريان سيوله, ومثل هذا غير متحقق في عارض يسد الأفق.
وبعض المفسرين قالوا ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾, أي مستقبلهم, والذي أعلمه أن المدن لا تبني بيوتها وأبوابها إلى جهة واحدة, بل هي مختلفة الاتجاهات, فإذا كانت الريح مستقبلة لبعض المساكن فهي مستدبرة لأخرى!!, ولهذا لابد أن يكون لاستقبال العارض لأوديتهم معناً آخر,المفسرون لم يُجلُّوا معنى قوله تعالى: ﴿مستقبل أوديتهم﴾, لأنه كان في نظرهم من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى توضيح, ولكن تغير نمط الحياة العصرية, وعدم حاجة الناس إلى التطلع إلى الأسماء ومراقبة البرق والرعد, وتوخي مواقع القطر, يصرف الأذهان عن إدراك العلاقة بين الاستبشار ورؤية العارض مستقبل الأودية, خاصة لأبناء المدن, التي تقوم حياتهم على العمل الوظيفي, في التجارة والصناعة, وهذا ما يوجب بعض التفصيل في هذا المعنى ليكون القارئ على بينة منه, وليعرف حجية الاستدلال به لتحديد موقع إرم ذات العماد.
قال المفسرون أن المطر حبس عن عاد ثلاث سنين, فلما رأوا العارض استبشروا وقالوا: ﴿ هذا عارضٌ ممطرنا ﴾, وأقول أن الاستبشار بالمطر وحده لا يشترط فيه استقبال العارض للأودية, فلو تخيلت السماء فوقهم مباشرة, وكانت علامات السحاب توحي بانهمار المطر لاستبشروا بذلك, ولن يقولوا هذا عارض, لأن العارض السحاب المعترض في الأفق, ولو كان العارض مستدبر أوديتهم أو كان في جهة لا تقع فيها مشارف أوديتهم "أقبال", وكان يتحرك نحوهم لقالوا هذا عارض ممطرنا, ولهذا السبب أرى أن لقوله تعالى: ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾ وجهاً للاستبشار آخر غير الاستبشار بالمطر, ولن نعرف هذا الوجه دون معرفة شيء من أسلوب معاشهم.
لا أظن أننا نجهل دور الأودية في جزيرة العرب في الزراعة, فمن المعلوم أن جزيرة العرب أرض لا أنهار فيها, لذلك تقوم فيها الزراعة على جنبات الأودية للاستفادة مما ينحدر من السيول من مشارفها ومآتيها, وقد تجري عيون في تلك الأودية تقوم عليها الزراعة بعد انحسار السيول, ومنسوب هذه العيون يزداد مع وفرة السيول والأمطار, ويتناقص بانحباسها, والسيول أكثر أثراً في ارتفاع منسوب مياه العيون, والعيون التي على هذه الشاكلة, الكائنة في الأودية, أكثر ما تكون في الأودية التي تنحدر من جبال السروات غرباً وجنوباً, والقليل منها في التي تسيل شرقاً إلى الصحراء, وقد جف أكثرها في وقتنا الحاضر, ولم يبق منها إلاّ القليل.
ولهذه الجغرافية أذهب إلى أن عاداً حين رأوا العارض مستقبل أوديتهم استبشروا بسيل أوديتهم به, وإذا عدنا إلى كلمة قُبُل, بضم القاف والباء, في غير الاحياء, نجد أن أول كل شيء قبله, فسفح الجبل, وهو أول ما يصعد منه يسمى قبله وبهذا المفهوم تكون مآتي الأودية ومشارفها التي ينحدر منها السيل أقبالها, والعرب تقول لمن سار في الوادي معاكساً مجراه, استقبل الوادي, لعله من هذا المعنى الذي ذهبت إليه, فإذا كانت مشارف الأودية ومآتي سيولها تسمى أقبالها, فإن استقبال العارض لأودية عاد يعني استعراضه على مشارفها ومآتي سيولها, ومن هنا كان استبشارهم بسيل ذلك العارض, المفهوم ضمنياً من قوله تعالى: ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾ أما الاستبشار بالمطر فصريح في قوله تعالى: ﴿ قالوا هذا عارضٌ ممطرنا ﴾ لما تيقنوه من حركته نحوهم, فهو على مآتي أوديتهم, ويتحرك صوبهم, والناس تعرف توجه العارض نحوهم, من ارتفاعه نحو كبد السماء, لأنه كلما اقترب منهم ارتفع عن الأفق واقترب من وسط السماء, والآية تدل على أن بين رؤيتهم للعارض مستقبل أوديتهم ومعرفتهم بتوجهه نحوهم وقت قصير جداً, يقابل استعجالهم بالعذاب, قال تعالى: ﴿فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيه عذاب أليم ﴾ الأحقاف.
لقد قلت إن العارض كان في الأفق الغربي, واحتججت بحديث شريف ورد فيه ذكر ريح الدبور, وعلى هذا تكون مشارف أودية عاد ومآتي سيولها غربي حاضرتهم, وما دامت هي كذلك فإن سيولها تنحدر إلى جهة الشرق, ويستبعد مع هذا الذي انتهيت إليه عن جهة جريان سيول أوديتهم, أن تكون حاضرتهم في أبين أو بلاد مهرة أو يبرين, لأنه لا توجد في هذه المناطق أودية تسيل من الغرب إلى الشرق ويمكن حصر الأودية الواقعة في الجزء الجنوبي من جزيرة العرب, الذي يشتمل على حضرموت وبلاد الشحر وبلاد مهرة, التي تسيل شرقاً ويمكن أن ينطبق عليها هذا الوصف, في وادي حضرموت الكبير وروافده, وقد أشار بعض السلف إلى أن المنطقة التي يجري فيها هذا الوادي, هي الأحقاف المعنية في سورة الأحقاف, فإذا كان الأمر كذلك ففي أي بقعة من هذا الوادي الذي يقطع مئات الكيلومترات تقع حاضرة عاد؟؟.
لابد أن حاضرة عاد كانت تقع بالقرب من التقاء رافد أو روافد من الأودية بوادي حضرموت, حتى يتحقق معنى قوله تعالى: ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾, لأن الآية تنص على أنها أكثر من وادٍ, سواء كانت تلك الروافد تصب في وادي حضرموت قبل حاضرة عاد أو تقترب منها وتصب فيه بعد أن تجاوزها, وأن يكون ذلك التقارب ذا نفع للزراعة.
وللتعرف على وادي حضرموت الكبير وروافده بحثت عن خرائط للجزء الجنوبي من جزيرة العرب, وبالكاد وجدت خرائط في غاية السوء وعدم الوضوح وقد لاحظت منها, رغم أني لا أطمئن إلى الخرائط التي تباع في الأسواق, أن هذا الوصف ينحصر في بقعة محدودة من هذا الوادي, تمتد من غربي تريم إلى شرقي العينات بقليل, لذلك أنا مع من يقول إن إرم ذات العماد غير بعيد عن مدينة تريم, كما توجد هضبة جنوبي العينات يزيد ارتفاعها عن خمسة آلاف قدم, تسمى الهضبة الحمراء, لعل السفينة استقرت عليها؟؟, ويكفي أننا إذا عرفنا موقع حاضرة عاد
سهل علينا معرفة موقع السفينة, لأن موقعها كما قلت سابقاً, في موقع يشرف على حاضرة عاد, ليس عنها ببعيد.
ولعل القرّاء الكرام يذكرون الضجة التي أثيرت حول اكتشاف آثار لمدينة قديمة, في غربي عُمان, وصاحبت ذلك الاكتشاف ضجة إعلامية كبيرة, متوهمين أنها إرم ذات العماد, وقالوا إن اسمها العبر أو وبار, وأن العبر وأرم ذات العماد اسم لمدينة واحدة, وقد ورد ذكر العبر في كتب العهد القديم, في قصة الأسطول الذي بناه نبي الله سليمان عليه السلام, على خليج العقبة, وطاف نواح كثيرة ومنها مدينة العبر وحاول بعض جغرافيينا الأفاضل وعلماء الآثار لدينا أن يلفتوا نظر المكتشفين أن وبار العربية ليست مدينة ساحلية, وقالوا الأولى بمكتشفي هذه المدينة أن يتريثوا حتى يتبينوا حقيقة المدينة المكتشفة, وأقول أن وبار العربية الصحراوية, لم يثبت أنها كانت مدينة عامرة, وكل ما قيل عنها لا يعدو أن يكون أساطير تولدت بسبب جهل الناس بمفاوز يبرين وخوفهم منها, حتى أنهم عدوها من معازف الجن, وأن الجن سكنتها خرائب بعد هلاك أهلها, والمدن الكبيرة لا تكون مع شح مصادر المياه, ولو غالطنا المنطق وقلنا إن وبار كانت مدينة عظيمة كما وصفت في الأساطير, فليست هي إرم.
كما أقول لأولئك المكتشفين على رسلكم, فبين هلاك عاد وبين أبينا إبراهيم من القرون ما لا يعلم عدده إلاّ الله, فما بالكم بزمن نبي الله سليمان, ولو صح ما قيل عن أسطول نبي الله سليمان, لكانت العبر غير إرم ذات العماد, لأن إرم كانت في ذلك الوقت خرائب, إن لم تكن مطمورة تحت الأرض, وحتى لو سلمنا جدلاً أنهم زاروها وهي خرائب فإنهم لن يجدوا فيها من آثار القوم إلاّ المباني, لأن الريح التي سلطها الله عليهم, كانت لا تمر على شيء من صنع أيديهم وأموالهم إلاّ جعلته كالرميم.
كم تمنيت أن أتمكن من نشر خبر في إحدى المجلات الأجنبية أقول فيه أن عالم الآثار توماس فريدريك هاردي قال في مقابلة مع مراسلنا ديفد مايكل إن هناك مؤشرات على أن سفينة نوح استقرت في حضرموت.
كيف بالله سيكون رد فعل الإعلام وهيئات الآثار في وطننا العربي؟؟, ألن يتحولوا على خلية نحل!! بين شارح وَ واصفٍ ومؤكدٍ ومؤيد, دون أن يسأل أحدهم نفسه هل يوجد عالم آثار على وجه الأرض بهذا الاسم؟؟

هادي على أحمد أبوعامرية.
e-mail: haa-aha@hotmail.com
أبو عامرية غير متواجد حالياً