وجوب التثبت في الأخبار وعدم نقل الشائعات والأكاذيب
من المعلوم أنَّ زمان الفتن زمان خطير يكثر فيه القيل والقال ، ويحمَل الكلام فيه على غير محاملِه ، ويكثر الجدال ، ويحرص فيه على نقل الأخبار ، وإشاعة الأقوال ، ويتصدر مَنْ حقُّهم التأخر ، وتنطق فيه الرويبضة ، وفي زمان هذا حاله ينبغي للمسلم العاقل أن يلتزم أوامر الله -سبحانه وتعالى- بكل قوَّةٍ ودقة ، ولا يجاوزها ، ففي لزومها النجاة ، وفي مفارقتها الهلَكَة.
ومن ذلك وجوب التثبت عند سماع الأخبار والأقوال ، وعدم العجلة في الحكم على الأخبار حتى يتبين له ثبوتها ، ثم بعد ذلك يقوم فيها بما أمر الله –سبحانه وتعالى- ، وهذا أمر واجبٌ على المسلم في حياته كلها ؛ في رخائه وشدته ، لكنه في وقت الفتنة آكد لما يترتب على ذلك من أمور عظام.
قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بِنَبأ فتبَيَّنُوا أن تُصِيبوا قَوماً بِجَهالةِ فَتُصبحوا على ما فعلتم نادمين }.
قال ابن كثير - رحمه الله- : "يأمر تعالى بالتثبت في خبرِ الفاسق ليحتاط له ، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً ، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه . وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين". وقد جعل العلماء - رحمه الله- هذه الآية وما جاء في معناها قاعدةً ، وبُنِيَ عليها علمُ الرجال والجرح والتعديل ؛ الذي حفظ الله به دينه ، وسنة نبيه... ، والذي اختصت به الأمة الإسلامية من بين الأمم التي أضاعت ما أوحاه الله لأنبيائه ، وحرَّفته ، وبدّلَته ، وأدخلت فيه ما ليس منه ، بقصد أو بدون قصد ، حتى لم يبق في أيديهم شيء يوثقُ به مما أوحاه الله لأنبيائه –عليهم السلام-.
وهذا دليل على أهمية التثبت والتبيُّن عند سماع الأخبار والروايات ولا سيَّما وقت الفتن ، وكم سبَّبَ عدم التثبت من فتنٍ ومصائب على الأمةِ لا زالت تعاني منها حتى يومنا هذا .
وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}.
قال ابن كثير - رحمه الله- :" في هذه الآية إنكارٌ على من يبادر إلى الأمور قبل تحقُّقِها فيخبر بها ، ويفشيها ، وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة".
فهذه الآية توجبُ التثبُّتَ والتبيُّنَ عند سماعِ الأخبار ، وتُنكِر – كما ذكر ابن كثير- على من بَادَرُ وسارَعَ في نقلها ونشرها قبل أن يتحققَ من صحتها ، وأرشدت كذلك إلى أمر آخر مهم ؛ وهو أن الأخبار إنما تنقل إلى أولي الأمر من العلماءِ والأمراءِ ، ولا تنقَلُ إلى عامَّةِ الناس لأن النقلَ إلى عامة الناس لا فائدة فيه ، وإنما الفائدة في نقله إلى أهل الحلِّ والعقدِ الذين يحسنون فهم الأمور ،واستنباط المصالح منها ، ولديهم القدرة على درء المفاسد.
وقد ذ كر ابن كثير - رحمه الله- عدَّةَ رواياتٍ تحذِّرُ من العجلةِ وعدم التثبت منها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكلِّ ما سمع "
وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه- : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال. قال ابن كثير - رحمه الله- : " أي الذي يكثر من الحديث عمَّا يقول الناسُ من غيرِ تثبُّتٍ ، ولا تدبُّرٍ ، ولا تبيُّنٍ .
ثم ذكـر ابن كثير - رحمه الله - قوله : " بئس مطية الرجل زعموا "
قال ابن كثير - رحمه الله- : "ويُذكَر هاهنا حديث عمر -رضي الله عنه- المتفَقِ عليه حين بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلَّقَ نساءه ، فجاء من منْزله حتى دخل المسجد فوجد الناسَ يقولون ذلك فلم يصبِر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك؟ قال: (لا) فقلت: الله أكبر ...الحديث .
وعند مسلم: فقلت : أطلَّقتهنَّ؟ فقال: (لا). فقمتُ على باب المسجد فناديتُ بأعلى صوتي : لم يطلِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت الآية.
قال عمر -رضي الله عنه-: أنا استنبطت ذلك الأمر.
وقال السعدي -رحمه الله- : "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق ، وأنَّه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمورِ المهمَّة ،والمصالح العامة ما يتعلَّقُ بالأمن ، وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبةٌ عليهم ؛ أن يتثبَّتوا ، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر.
بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ؛ أهل الرأي ، والعلم ، والنصح ، والعقل ، والرزانة ؛ الذين يعرفون الأمور ، ويعرفون المصالِحَ وضدَّها.
فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين ، وسروراً لهم ، وتَحَرُّزاً من أعدائهم ؛ فعلوا ذلك .
وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة ، أو فيه مصلحة ولكن مضرَّته تزيد على مصلحته لم يذيعوه ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة ،وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي: أنه إذا حصل بحث في أمرٍ من الأمور ، ينبغي أن يولَّى من هو أهل لذلك ، ويجعل إلى أهله ، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ .
وفيه النهي عن العجلة والتسَرُّع لنشر الأمور من حين سماعها ، والأمر بالتأمل قبل الكلام ، والنظر فيه ، هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان؟ أم لا ، فيحجم عنه؟".
فانظر – رعاك الله وحماك من الفتن ما ظهر منها وما بطن- هذا العلاج الرباني وقتَ وقوع الفتن ، وذلك بالصبر ، والتثبتِ ، وعدم العجلةِ ، فإن في ذلك السلامةَ من الفتنِ ، كما في النصوصِ السابقة.
وانظر إلى فهم عمر - رضي الله عنه- ، وتثبته ، وكيف سلَّمَه الله من هذه الفتنة بسبب التثبت في الأخبارِ.
وقد ابتليت الأمة الإسلامية اليوم بأقوام لا همَّ لهم إلا البحثَ عن الأخبارِ ؛ صحيحها وسقيمها ، ونشرَ هذه الأخبار على الأمة ؛ مسلِمِها وكافرها ، دون رَوِيَّةٍ ، وتثبتٍ ، ودون النظرِ في عواقب الأمور ، ودون معرفةٍ للمصالح والمفاسد المترتبة على نشر هذه الأخبار بل يظنونَ – للأسف الشديد - أنهم بنشرِهم لهذه الأخبارِ الظنِّيَّةِ ؛ يرفعون من علوم الأمة ، وثقافتِها ، وفقهها بواقعِها! ، وما دروا أنَّ في نشر هذه الأخبار تثبيطاً للأمةِ ، وزرعاً للشكِّ واليأسِ في قلوب الناشئةِ ، وعوام الأمة ، واستهانةً بأولياء أمور الأمة ، وعلمائها .
فالواجب بعد هذا الحرصُ الشديد في نقل الأخبارِ ، وأن لا تنقلَ هذه الأخبارُ إلا لأولياء الأمور ، وأهل الحلِّ والعقد والعلمِ ، والتثبُّتُ في ذلك ، وعدمُ تحميلِ الخبر ما لا يحتمله ، وعدمُ إشغال الناشئة وعوام المسلمين بما لا فائدة لهم به ، ولا قدرة لهم على تحمُّلِه ومعالجته.
ومن عجيب حال الأمة اليومَ أنَّ هؤلاء النقلةِ للأخبار ، المبادِرِين في نشرها ؛ لا يميِّزون بين ناقلي الأخبار ، فتراهم يروون خبراً عن مجلَّةٍ كافرةٍ ، أو إذاعةٍ في دولة كافرة ؛ يهودية أو نصرانية ، ويجعلون هذا الخبرَ يقينياً ، ويبنون عليه مسائل خطيرةٍ ، تتعلَّق بمصالح الأمة ، وما دروا أنَّ الكافر لا يصلحُ أنْ يكونَ مصدراً للأخبار الصحيحةِ ، وأنَّ هؤلاء الكفَّارَ إنما نشروا مثل هذه الأخبارِ لضربِ الأمةِ بعضها ببعضٍ ، ولإشاعة الوهَنِ والخوفِ والشكِّ في الأمة .
فلا يجوز بعد هذا قبول الأخبار إلا من الثقات العدولِ ، ثم بعد هذا ينظرُ في نشره حسب المصالحِ والمفاسدِ ، بعد الرجوع إلى أولياء الأمور ، وعلماء الأمة ، وأهل الحل والعقد فيها.
ومن أعظم الشواهد على تطبيق السلفِ - رحمهم الله - لهذه القاعدةِ العظيمة وقتَ الفتن :
ما رواه البخاري - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما أنا في منْزلِهِ بِمِنى ، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها ، إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال : لو رأيت رجلاً أتى أميرَ المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؟ فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة ، فتمَّتْ ، فغضب عمرُ ، ثم قال: إني - إن شاء الله - لقائم العشيةَ في الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، فإنَّ الموسمَ يجمع رَعاعَ الناس وغوغاءَهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالةً يطيُّرها عنك كل مطيِّر ، وأن لا يعوها ، وأن لا يضعوها على مواضعها ، فأمهِل حتى تقدم المدينة ، فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلتَ متمكناً ، فيعي أهلُ العلم مقالتَك ، ويضعونها على مواضعها.
فقال عمر - رضي الله عنه - : والله - إن شاء الله - لأَقُومنَّ بذلك أوَّلَ مقامٍ أقومُه بالمدينة..الحديث.
ففي هذه القصة العظيمة بيانُ فقهِ الصحابة - رضي الله عنهم - ، وحرصُهم على سلامة الأمة من الفتن ، وذلك بحفظ الأمور العظام عن العوام والرَّعاعِ ؛ لأنهم لا قدرةَ لهم على حلِّها ، ولا فهمها ، بل ربَّما أدى علمهم بها إلى الفتن .
ولذلك أشار عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه - على عمرَ - رضي الله عنه - أن يحفظَ ما يريد قولَهُ عن عامة الناسِ ، ويخصَّ به أهل الفقه والشرف حتى يعوا مقالته ويضعوها على مواضعها ، واستيعاب عمر - رضي الله عنه - لذلك ، فلمَّا رجعَ المدينة ذكر ما أراده للناسِ .
وبهذا الفقه العظيم صار الصحابةُ - رضي الله عنهم- أماناً للأمة من الفتن ، فلمَّا ماتوا أصاب الأمة ما أصابهم.
والملاحظ الآن عكس هذا تماماً ، فإن كثيراً ممن يزعم الإصلاح في هذا الزمان يتكلَّمُ بكل شيء في كلِّ مكانٍ دونَ تمييزٍ ، ودون نظرٍ لعواقب الأمور، فما يكاد أحدهم يسمع خبراً ولا سيَّما الأخبارَ المتعلقةَ بمصالح الأمةِ ، وأحوالِ أولياء الأمور إلا وطار به ، ينشره في كل مجالٍ متاحٍ عن طريق الإنترنت ، وعن طريق الإذاعة أو عن طريق القنوات الفضائية ، وحتى عن طريق المجالس ، ففي أيِّ مكانٍ يهذي به ، دون أدنى تثبُّتٍ ، أو نظرٍ ، وما درى كم يفسد هذا الخبر على الأمةِ من أمورٍ! - خاصة إذا عرفتَ أن أعداء الأمة يتربصون بها الدوائر ، ويفرحون بمثل هذه الأخبارِ- حتى أوقعوا الناس في الحيرة والدهشةِ واليأس والقنوط ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وبهذا تعرف أهميَّة التثبتِ ، وحفظِ الأخبار ، ونقلِها إلى أهل الحلِّ والعقد دون سائر الناس ، بعد التأكدِ من صحتها . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 000
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
المراجـــــع
1 - تفسير ابن كثير
2 - تفسير الكريم المنان للشيخ السعدي
3 - صحيح البخاري ( فتح الباري ) لابن حجر
4 - صحيح مسلم . للنيسابوري
5 -